ذكاء اصطناعي

رحلة داخل العقل: كيف يُشفّر دماغك اللحظات لتتحول إلى ذكريات؟

رحلة داخل العقل: كيف يُشفّر دماغك اللحظات لتتحول إلى ذكريات؟
فريق العمل
فريق العمل

4 د

ألقى بحث جديد الضوء على عملية تكوين الذكريات في الدماغ.

اكتشف الباحثون أن الخلايا العصبية لا تتبع قاعدة واحدة في تقوية الوصلات العصبية.

تنوع القواعد يسمح للخلايا العصبية برسم خريطة أكثر دقة للمعلومات الجديدة.

قد يفتح هذا الاكتشاف أبوابًا جديدة لتطوير علاجات لأمراض الدماغ واضطراباته.

تُسهم النتائج في تحسين نماذج الذكاء الاصطناعي بمحاكاة أقرب لوظائف الدماغ البشري.

كيف يعمل عقلك لتكوين ذكريات جديدة؟ سؤال يبدو بسيطًا لكن إجابته لطالما شغلت علماء الأعصاب حول العالم. اليوم صار لدينا إجابة أوضح بقليل، بفضل بحث جديد نُشر في مجلة "science" ألقى الضوء على هذه العملية المعقّدة، واكتشف بعض "القواعد" التي تتبعها خلايا الدماغ في حفظ المعلومات الجديدة.

داخل أدمغتنا المليارات من الخلايا العصبية (العصبونات)، هذه العصبونات تقوم بإرسال واستقبال إشارات كهربائية تُعادل، بشكل ما، ما يفعله الحاسوب عندما يستخدم اللغة الرقمية الثنائية للاحتفاظ بالمعلومات. وتنتقل هذه الإشارات العصبية عبر الوصلات الصغيرة جداً بين الخلايا، والتي نسميها "المشابك العصبية".

ببساطة، كل خلية عصبية تحتوي على أذرع دقيقة تسمى "التفرعات الشجيرية"، وهذه الأذرع تعمل كهوائيات تستقبل آلاف الإشارات من الخلايا المجاورة. بعد استقبال هذه الإشارات، يقوم جسم الخلية العصبية بدمجها ومعالجتها، ثم إرسال إشارات كهربائية جديدة تُنقل إلى باقي أجزاء الدماغ.

المفتاح في تشكّل الذكريات يكمن في النشاط الجماعي لهذه الإشارات بين مجموعات محددة من الخلايا العصبية، لأن هذا النشاط الجَمَاعي هو الذي يُشكّل تمثيلات للخبرات والمعلومات الجديدة التي نصادفها في حياتنا اليومية.


كيف يعرف دماغك أي وصلات عصبية عليه تقويتها أو إضعافها عند تعلم شيء جديد؟

هذا السؤال حيّر العلماء طويلًا، ويُعرف بمصطلح "مشكلة إسناد الفضل". بمعنى آخر، كيف تُحدد الدماغ أيًا من تلك الوصلات العصبية هي المسؤولة حقًا عن المعلومة الجديدة التي تُريد أن تتذكرها؟ لفترة طويلة اعتقد العلماء أن هناك قاعدة واحدة وواضحة يتبعها الدماغ، تسمى قاعدة "هيب" (Hebbian Rule) وهي التي تقول بكل بساطة "الخلايا التي تطلق إشارات مع بعضها بشكل متكرر، تقوى ارتباطاتها ببعضها بشكل أكبر".

لكن الباحثين اليوم فاجأونا عندما اكتشفوا بأن الحقيقة أكثر تعقيدًا من ذلك. باستخدام أجهزة مجهرية متطورة وتقنيات تصوير حديثة، زرع العلماء في خلايا دماغ فئران تجارب مستشعرات حيوية تجعل هذه الخلايا تضيء عندما تنشط. ثم قاموا بمراقبة نشاط المشابك العصبية داخل خلايا دماغ هذه الفئران بشكل مباشر في الوقت الحقيقي، خلال تعلم الفئران مهامًا بسيطة مثل الضغط على مفتاح بعد سماع أصوات معينة للحصول على الماء.

اكتشف الفريق شيئًا غير متوقع وصادم لمعظم علماء الأعصاب، وهو أن الخلايا العصبية الواحدة لا تتبع قاعدة واحدة فحسب، بل تتبع مجموعات متنوعة من "القواعد". حيث تبين أن بعض المشابك على تفرعات عصبية معينة تستخدم بالفعل "قاعدة هيب" التي ذكرناها، أي كلما تم تنشيط خلايا معينة معاً زادت قوة ارتباطها. بينما تعتمد مشابك أخرى قواعد مختلفة تمامًا، بعضها مستقل كليًا عن آلاف الإشارات المحيطة بها.

ماذا يعني هذا الاكتشاف عمليًا؟ بحسب الباحثين، يسمح هذا التنوع في القواعد للخلايا العصبية أن تكون أكثر دقة وإتقانًا في رسم خريطة المعلومات الجديدة، مثلما لو أنك تستخدم عدة طرق في وقت واحد لأداء مهمة معقدة. وهذا يجعل من دماغك جهازاً أكثر ذكاءً وأكثر قدرة على معالجة وتمييز المحتوى الجديد بدقّة متناهية.


لماذا تُعدّ هذه الأبحاث مهمة لصحتنا وللمجتمع؟

إن فهم طريقة عمل المشابك العصبية في المخ لديها أهمية كبرى بالنسبة للصحة العامة. معظم اضطرابات الدماغ المعروفة، مثل أمراض التآكل العصبي كالزهايمر أو أمراض نفسية كالاكتئاب، تحدث في الأساس كنتيجة لخلل في عمل هذه المشابك العصبية. فعلى سبيل المثال، يعتقد الباحثون أن حالات الاكتئاب قد تحدث نتيجةً لضعف أو تدهور زائد في بعض الروابط العصبية المسؤولة عن الشعور بالسعادة والمتعة.

لهذا، قد يفتح هذا الاكتشاف الجديد أبواباً واسعة أمام العلماء لتطوير علاجات أكثر فعالية ودقة لهذه الأمراض، تستند على فهم عميق وقريب جدًا من الطبيعة الحقيقية لكيفية عمل خلايا الدماغ أثناء التعلم وتشكيل الذكريات.


هل تساعد هذه النتائج العلماء في تطوير الذكاء الاصطناعي؟

بعيدًا عن الصحة، تملك هذه النتائج أيضًا أهمية واضحة في مجال الذكاء الاصطناعي. الشبكات العصبية الاصطناعية التي يستخدمها علماء التكنولوجيا حاليًا تحاكي الطريقة التي يُعتقد أن دماغنا يعمل بها، ولكنها تعتمد عادةً على قواعد موحدة وبعيدة عن الواقعية البيولوجية في تحديث المعلومات وإنشاء الروابط الجديدة.

ذو صلة

ومع معرفة أن دماغ خلايا الإنسان يستخدم قواعد متعددة ومتنوعة للتعلم وتشكيل الذكريات، يمكن للباحثين حاليًا تطوير نماذج ذكاء اصطناعي أكثر فعالية، وأكثر قربًا من الواقع البيولوجي، ما يسمح لهم بناء ذكاء اصطناعي أكثر قدرة على التعلّم والاستجابة بطرق تشبه طريقة عمل الدماغ الحقيقي.

على الرغم من الإثارة التي خلقتها هذه الدراسة، إلّا أن العلماء يعلمون جيدًا أننا ما زلنا بحاجة إلى الكثير من البحث لنفهم بشكل أوضح: لماذا تستخدم الخلايا أكثر من قاعدة في نفس الوقت؟ وكيف تفعل هذا بشكل دقيق؟ كل هذه الأسئلة تشكّل تحديات مثيرة تنتظر العلماء، الذين يأملون أن تقدم أبحاثهم القادمة مزيدًا من الإجابات وتُقرّبنا أكثر نحو الكشف عن المزيد من أسرار الدماغ البشري الساحر.

ذو صلة