عندما كانت شبه الجزيرة العربية خضراء: اكتشاف عالم مائي مفقود تحت رمال الربع الخالي

3 د
اكتشف علماء آثار وجيولوجيا بحيرات وأنهار قديمة تحت رمال صحراء الربع الخالي، تعود إلى فترة "العربية الخضراء" بين 11,000 و5,500 سنة مضت.
كانت هناك بحيرة ضخمة مساحتها 1,100 متر مربع وعمقها 42 مترًا، انهارت لاحقًا بفعل الأمطار الغزيرة، محدثة فيضانًا شكّل واديًا طوله 150 كيلومترًا.
وفرت هذه البيئة المائية الخصبة أرضًا مناسبة لنمو الحشائش والمجتمعات البشرية، خاصة الصيادين والرعاة.
مع بداية انخفاض الأمطار قبل نحو 6,000 سنة، بدأ التصحر يجتاح المنطقة، ما أدى إلى هجرة السكان وتحول نمط حياتهم.
في واحدة من أضخم الاكتشافات الجيولوجية في المنطقة، أماط فريق بحثي دولي اللثام عن عالم مائي مفقود كان يزدهر تحت رمال صحراء الربع الخالي، التي تُعد اليوم من أكثر المناطق قحولة وجفافًا في العالم. الدراسة الحديثة، التي نُشرت في مجلة Communications Earth & Environment العلمية، توصلت إلى وجود بحيرات وأنهار ووديان ضخمة تشكّلت خلال فترات مطيرة بين 11 ألفاً و5,500 سنة مضت، في ما يعرف بعصر "العربية الخضراء". الاكتشاف يُعيد رسم تصورنا عن تاريخ مناخ الجزيرة العربية، ويقدم دليلاً مذهلاً على تحوّلها الدراماتيكي من جنات خضراء إلى صحراء قاحلة.
"العربية الخضراء": حقبة البحيرات والأنهار
يقود الدراسة الدكتور عبد الله زكي والأستاذ سيباستيان كاستلتور من جامعة جنيف، بالتعاون مع الأستاذ عبد القادر عفيفي من جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست)، والأستاذ مايكل بتراجليا من جامعة غريفيث. وثّق الفريق وجود بحيرة ضخمة ووادي عميق نشآ بفعل الفيضانات الموسمية، التي كانت تصل إلى الجزيرة العربية قادمة من أفريقيا.
وأوضح الدكتور زكي أن هذه البحيرة بلغت ذروتها قبل نحو 9,000 عام، في فترة كانت فيها الجزيرة مغطاة بالمساحات الخضراء والمياه الوفيرة. وبلغت مساحة البحيرة نحو 1,100 متر مربع، وبعمق 42 مترًا، وهو مشهد مناقض تمامًا لما عليه المنطقة الآن من جفاف وتصحّر.
فيضان كارثي شكّل واديًا بطول 150 كيلومترًا
لكن هذا الازدهار لم يكن دائمًا، إذ يشير الأستاذ كاستلتور إلى أن ارتفاع معدلات الأمطار تسبب لاحقًا في فيضان البحيرة، ما أدى إلى تصدّعها وانهيارها، مخلّفًا واديًا يمتد على طول 150 كيلومترًا في عمق الصحراء. هذا التحوّل المفاجئ يُعد تذكيرًا قويًا بمدى هشاشة التوازن البيئي وسرعة تبدّل المناخ.
الصورة التي ترسمها الدراسة ليست فقط جيولوجية، بل أيضًا بشرية وثقافية، إذ أن هذا التحوّل الهيدرولوجي غيّر مسار الحياة في الجزيرة، من أرض تزدهر فيها المجتمعات إلى صحراء دفعت الناس للهجرة والبحث عن أراضٍ أكثر خصوبة.
من الواحات إلى الصحراء: كيف غيّر الجفاف مصير الجزيرة
خلال الفترة التي امتدت لعدة آلاف من السنين، أوجدت البحيرات والأنهار بيئة مشابهة للسافانا، ما ساعد في ازدهار المجتمعات القائمة على الصيد وجمع الثمار، ومن ثم الرعي. ويقول الأستاذ بتراجليا إن هذا التحول البيئي كان حاسمًا في توسّع السكان وانتشارهم في مناطق كانت في السابق جافة وخالية من أي نشاط بشري.
ومع حلول نحو 6,000 سنة مضت، بدأ نمط الأمطار يتغير بشكل جذري، لتدخل الجزيرة في فترة من الجفاف الطويل، معلنة بذلك نهاية العصر الأخضر. هذا التبدّل أجبر السكان على النزوح إلى مناطق أكثر اعتدالًا، وغيّر أنماط حياتهم بالكامل، خاصة المجتمعات البدوية التي اعتمدت على التنقل الدائم.
تكمن أهمية هذا الاكتشاف في كونه يعيد الاعتبار للجزيرة العربية كموقع شهد تحوّلات مناخية هائلة أثّرت في التاريخ البشري والحضاري بشكل مباشر. فالفترات المطيرة لم تكن مجرد أحداث عرضية، بل محطات شكلت الجغرافيا، وحددت مسارات الهجرة، وأسست لحضارات زراعية ومجتمعات رعوية. كذلك، يلفت هذا البحث الانتباه إلى الحاجة لفهم أعمق للتغيرات المناخية التي قد تؤثر علينا مستقبلًا، بنفس الطريقة التي غيّرت بها مجرى التاريخ في الماضي.