فرنسا تحقق إنجازًا جديدًا يقرب البشرية من حلم الطاقة اللامحدودة

4 د
حقق مفاعل "Tokamak WEST" الفرنسي رقمًا قياسيًا في الحفاظ على البلازما لأكثر من 22 دقيقة.
يعتمد الإنجاز على جهود تقنية مبتكرة وأنظمة تسخين قوية لضمان استقرار البلازما.
تعاون دولي يعزز الجهود لتحقيق حلم الطاقة الاندماجية النظيفة والمتجددة.
تساهم الابتكارات الجديدة في تحسين توزيع الطاقة وإطالة عمر المفاعل.
التحديات مستمرة، لكن النجاحات تضيء الأمل في مستقبل الطاقة المستدامة.
في خطوة غير مسبوقة تشكل نقلة نوعية في عالم الطاقة النووية، تمكن مفاعل "توكاماك وست" (Tokamak WEST)، الواقع في مركز لجنة الطاقات البديلة والطاقة الذرية الفرنسية بموقع "كاداراش"، من تحقيق رقم قياسي عالمي جديد في الحفاظ على البلازما لأكثر من اثنتين وعشرين دقيقة متواصلة، متجاوزًا بذلك الرقم السابق الذي سجله المفاعل الصيني "EAST" بفارق واضح وصل إلى نحو 25 بالمئة.
لماذا يعد هذا الإنجاز مهماً؟
لعل الكثيرين يتساءلون عما يعنيه الحفاظ على حالة البلازما لدقائق طويلة بهذا الشكل؟ وفي الواقع، فإن هذه الدقائق المعدودة تحمل أهميةً بالغة؛ فكل دقيقة إضافية تتطلب مجهودًا علميًا خارقًا وجهوداً تكنولوجية رفيعة المستوى. فالبلازما - وهي الحالة الرابعة للمادة، وتتميز بدرجة حرارة عالية جدًا تجعل الذرات تتفكك وتندمج مولدة كمية هائلة من الطاقة - تُشكّل قلب مفاعلات الاندماج النووي. ولهذا، فإن كل دقيقة إضافية تعني أننا نقترب خطوة من إنتاج طاقة نظيفة، متجددة، تكاد تكون خالية من المخاطر، وقادرة على تلبية احتياجات البشرية كاملة دون التسبب في تلوث أو انبعاثات غازات ضارة.
تحديات تقنية وجهود مكثفة خلف الكواليس
خلف هذا الإنجاز المذهل، يقف عدد من الفنيين والباحثين الذين بذلوا جهودًا حثيثة في تطوير تقنيات مبتكرة واختبار مواد جديدة. فعلى سبيل المثال، استخدمت مكونات مفاعل "توكاماك وست" المصنوعة من مادة التنجستن التي أثبتت كفاءتها العالية جدًا في مقاومة درجات الحرارة الحارقة والظروف القاسية التي تسببها البلازما. هذا التقدم ساعد بشكل كبير في استقرار البلازما لمدة أطول من أي وقت مضى.
ومع وجود أنظمة تسخين متطورة استخدمت قوة تصل إلى 5.8 ميغاواط من خلال تقنية التسخين "الهجينة السفلية" (Lower Hybrid)، وأكثر من 4 ميغاواط عبر تقنية "تسخين الأيونات بالرنين الدوري الحلزوني" (Ion Cyclotron Resonance)، استطاعت هذه الأنظمة المتقدمة أن تحافظ على استقرار البلازما، وأن توفر أيضًا معلومات قيّمة للعلماء حول أفضل الطرق للحفاظ على درجة حرارة ثابتة ومستقرة داخل المفاعل.
تعزيز التعاون الدولي.. فرنسا في قلب الحدث
ولا يقف الإنجاز الفرنسي اليوم منفصلاً، بل يندرج في نطاق تعاون دولي واسع. فعلى بعد خطوات معدودة من مفاعل "توكاماك وست"، في نفس مركز كاداراش، يأتي مشروع مفاعل ITER العملاق كمشروع دولي مشترك يسعى إلى تحقيق حلم البشرية في إنتاج الطاقة الاندماجية بشكل عملي. فرنسا تُعد حاليًا مركزًا عالميًا للبحث في هذا المجال الواعد، جنبًا إلى جنب مع مشاريع أخرى بارزة في بريطانيا مثل JET، أو في اليابان كـ JT-60SA، أو في الصين كـ EAST.
ومن هنا تأتي أهمية التعاون الدولي في تسريع خطوات التقدم العلمي وتبادل الخبرات والمعرفة، خاصة أن مجال الاندماج النووي يواجه تحديات جسيمة مثل الكميات المحدودة لمادة التريتيوم المطلوبة كوقود حيوي لهذه التفاعلات. ولذلك، توجّهت عدة دول من ضمنها بريطانيا وإيطاليا مؤخرًا لرصد التمويل الكافي لإنشاء مراكز بحثية متخصصة في إيجاد الحلول المثالية لهذه التحديات.
ابتكارات تقربنا من تحقيق الحلم
لم تقتصر مساهمات مفاعل "توكاماك وست" على تحطيم الرقم القياسي الجديد وحسب، بل قام أيضًا باختبارات جديدة على طريقة تسمى "حالة النقطة الإشعاعية إكس" (Radiating Point-X). وببساطة أكثر، هذه الطريقة تُوزّع الطاقة الحرارية داخل المفاعل بشكل أفضل، وتُخفّض الضغط على مكوناته بشكل كبير. هذا الابتكار يسمح بإطالة عمر المفاعل بشكل ملحوظ، لتهيئة الظروف لعمل أكثر استقراراً على المدى الطويل.
هل اقتربنا من تحقيق حلم الطاقة الاندماجية؟
على الرغم من أهمية هذه النجاحات، فإن الطريق لا يزال طويلاً قبل أن نرى هذه التقنية قادرة على تزويد المدن والمصانع بالطاقة. فما زالت هناك أسئلة عالقة حول الجدوى الاقتصادية، والتحديات المتعلقة بالمواد والوقود والتكاليف الضخمة لبناء مفاعلات اندماجية كبيرة على نطاق صناعي.
ومع ذلك، فإن النجاحات المتلاحقة للمشروعات مثل "توكاماك وست" تُشعِل بارقة أمل وتؤكد التزام فرنسا والمجتمع العلمي العالمي في إيجاد حلول مستدامة وفعالة للطاقة في المستقبل.
في النهاية، يظل السؤال مفتوحًا أمامنا جميعًا: هل يمكن أن تكون الطاقة الاندماجية هي الحل الذي سيغيّر حياتنا ويُنهي اعتماد البشرية على مصادر الطاقة التي نستخدمها الآن؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة، ولكن المؤكد أن خطوات النجاح مثل إنجاز فرنسا الأخير تُمثّل إشارة واضحة على أننا نمضي بقوة نحو هذا الهدف الكبير.