ذكاء اصطناعي

كائنات لا تنفجر… كيف تتحدى أسماك الأعماق ضغط الماء الذي يسحق الإنسان؟

محمد كمال
محمد كمال

3 د

تحمل كائنات أعماق البحار الضغط العالي بفضل أنسجتها الهلامية المتوازنة مع بيئتها.

تستخدم الأسماك مواد كيميائية، مثل TMAO، لحماية الروابط الخلوية في الأعماق.

تملك أسماك الأعماق طفرات جينية تعزز كفاءة التعبير الجيني واستقرار الخلايا.

الصعود إلى السطح يفسد بنية الأسماك، كما يظهر في حالة البلوب فيش.

التكيفات الفيزيائية، الكيميائية، والجينية تمكن الحياة من البقاء في أعمق مناطق البحر.

تخيل نفسك على عمق ستة آلاف متر تحت سطح البحر. هنا يبدأ ما يُعرف بالمنطقة الهادال، عالم موحش يخيّل للمرء أنه جزء من الجحيم نفسه، حيث يتضاعف الضغط الجوي آلاف المرات بحيث لا يمكن لجسم الإنسان تحمله ولو لثوانٍ. ومع ذلك، نجد أن الأسماك والقشريات والرخويات تسبح هناك وكأن الأمر لا يتعدى نزهة هادئة في الأعماق. فكيف يحدث هذا التناقض المدهش؟

واحدة من المفاتيح الأساسية تكمن في تركيبة أجسامنا مقارنة بهذه المخلوقات. أجساد البشر تحتوي على تجاويف مليئة بالهواء مثل الرئتين والجيوب الأنفية، وهذه الجيوب تنهار تماماً تحت أي تغيرات ضخمة في الضغط. أما كائنات الأعماق مثل سمك الحلزون البحري، فهي مبنية من أنسجة هلامية ومياه تكاد تتطابق في خصائصها مع بيئتها، ما يجعل الضغط الداخلي والخارجي متوازناً دائماً. وهذا الفرق البسيط في البنية يفسر كثيراً من قدرتها على النجاة.

لكن المسألة لا تقف عند غياب الهواء. في الأعماق تصل الضغوط إلى درجة قد تُشوّه حتى تركيبة جزيئات الماء نفسها، مما يهدد استقرار العمليات الحيوية. هنا يظهر دور مادة كيميائية خاصة تُسمى «أكسيد ثلاثي ميثيل أمين» أو TMAO، وهي جزيئات صغيرة تُثبت الروابط بين جزيئات الماء وتقي البروتينات من الانهيار. الدراسات بينت أن تركيز هذه المادة في الأسماك يرتفع بانتظام كلما ازداد العمق الذي تعيش فيه. وبجانبها هناك مركبات أخرى تُعرف بالـ «بيزوليتات» تعمل كدرع إضافي لحماية الأغشية الخلوية من الانبعاج والانهيار.
وهذا يربط بين الجانب الكيميائي لتكيّفات الكائنات وبين بقاءها في بيئة تقهر معظم أشكال الحياة الأخرى.

الأبحاث الحديثة كشفت أيضاً أن أغلب الأسماك التي تعيش على أعماق تتجاوز ثلاثة آلاف متر تمتلك طفرة جينية مذهلة في جين يُدعى rft1. هذه الطفرة يعتقد العلماء أنها تساعد على زيادة كفاءة التعبير الجيني واستقرار الخلايا في ظل الضغط الهائل. بكلمات أخرى، ليس الأمر مجرد توازن فيزيائي أو كيميائي؛ بل إن التطور لعب دوراً في إعادة تصميم أدوات الحياة على المستوى الوراثي.
ومن هنا يتضح أن البقاء في تلك الأعماق ليس صدفة، بل ثمرة ملايين السنين من التكيف.

ذو صلة

إلا أن هذه الميزات المفيدة في الأعماق تتحول إلى مأساة عندما تجبر الأسماك على الصعود. الكائن الشهير «بلوب فيش» مثلاً يظهر بمظهر مترهل وكئيب فقط عند انتشاله إلى السطح، حيث يختفي ضغط الماء الذي يحفظ شكله الطبيعي. لذا يمكن القول إنه لا يعيش وجهه الحقيقي إلا هناك، في الظلام المطبق على آلاف الأمتار.
وهذا يربط بين علاقتنا السطحية مع هذه الكائنات وبين المعضلة التي تواجه العلماء عند محاولة دراستها خارج بيئتها الأصلية.

في النهاية، يبدو أن أسرار الصمود في أعمق مناطق البحر تتوزع بين البنية الهلامية الخالية من الهواء، والدروع الكيميائية مثل TMAO، والطفرة الجينية الفريدة التي تعزز مرونة الخلايا. هذه التركيبة المدهشة من الفيزياء والكيمياء والوراثة تجعل عالم الأعماق مكاناً خصباً للدراسة والاكتشاف، ومصدر دهشة لا ينضب أمام قدرة الحياة على التكيّف حتى في أحلك الظروف.

ذو صلة