ذكاء اصطناعي

أربعة هياكل غامضة مدفونة تحت أوروبا… ليست معابد ولا مدافن، بل أدوات صيد ذكية تعود لآلاف السنين

محمد كمال
محمد كمال

3 د

اكتشاف هياكل حجرية ضخمة في هضبة الكارست يعيد تعريف قدرات الإنسان القديم.

نظام الصيد معقد ويعكس ذكاء هندسي وتعاون جماعي غير عادي.

الجدران الصخرية صُممت بذكاء لتوجيه القطعان نحو الفخاخ المخفية.

يتطلب بناء هذه المنشآت أكثر من خمسة آلاف ساعة عمل جماعي.

الهياكل تشهد على استراتيجية الإنسان القديم في استغلال الطبيعة لأهدافه.

في منطقة هادئة على الحدود بين سلوفينيا وإيطاليا، توصل علماء الآثار إلى اكتشاف مثير قد يغيّر نظرتنا إلى قدرات الإنسان القديم. فقد عُثر على أربع هياكل حجرية ضخمة مدفونة في عمق هضبة الكارست، تبين أنها كانت جزءاً من نظام صيد متطور يعود إلى عصور ما قبل البرونز — وهو النظام الأول من نوعه الذي يتم تحديده في القارة الأوروبية.

هذه الهياكل لا تثير الدهشة لحجمها فقط، بل لأنها تعكس أيضاً ذكاءً هندسياً مذهلاً وروح تعاونٍ جماعي لا يُستهان بها. فطريقة بنائها توحي بمعرفة دقيقة بتضاريس البيئة وسلوك الحيوانات البرية، خصوصاً غزال الأيل الأحمر الذي يبدو أنه كان الهدف الأساسي لشبكة الصيد هذه.

وهنا يتضح الرابط بين العمارة الحجرية القديمة وفهم البيئة الطبيعية الذي امتلكه الإنسان قبل آلاف السنين.


خريطة سرّية في قلب الطبيعة

من على سطح الأرض، لا تبدو هذه الجدران الحجرية المنخفضة للوهلة الأولى سوى تشكيلات طبيعية متناثرة. لكنها من الجوّ تروي حكاية مختلفة تماماً. فقد استخدم الباحثون تقنيات المسح بالليدار الجوي عالي الدقة لرسم خريطة لأكثر من 870 كيلومتراً مربعاً من هضبة الكارست. والنتيجة؟ أربعة تشكيلات حجرية على شكل حرف V تمتد ما بين نصف كيلومتر وثلاثة كيلومترات ونصف، وتنتهي جميعها في حفرة شبه دائرية تقع عند حافة منحدر طبيعي.

كان الهدف من هذا التخطيط الذكي توجيه القطعان البرية نحو نهاية ضيقة يسهل فيها نصب الفخاخ. فالجدران المنخفضة كانت تخفي الفخ ببراعة عن أنظار الحيوانات، التي كانت على الأرجح تندفع في مسارها دون وعي بالمصيدة المنتظرة.

هذا يربط بين التصميم الهندسي القديم وفكر استراتيجي يعكس تطور التنظيم الاجتماعي المبكر لدى البشر.


مجهود جماعي يتحدى الزمن

ما أثار فضول العلماء أكثر هو حجم العمل المطلوب لبناء هذه المنشآت. إذ تشير التقديرات إلى أنها احتاجت إلى نحو خمسة آلاف ساعة عمل جماعي، أي ما يتجاوز بكثير قدرة مجموعة صغيرة من الصيادين. وهذا يعني أن مجتمعات الصيد في تلك الحقبة كانت تتمتع بهيكل اجتماعي منظم ومهارات توزيع أدوار واضحة، بل وربما أنظمة قيادة واتفاقات محددة لإنجاز مثل هذا المشروع الطموح.

توضح الدراسة المنشورة في مجلة Proceedings of the National Academy of Sciences أن هذه الإنشاءات تجسد «تشغيل العمل الجماعي خارج نطاق الأسرة، وتحويل المشهد الطبيعي إلى بنية تحتية تخدم بقاء الجماعة».

وهذا يؤكد أن الإنسان القديم لم يكن فقط صياداً ماهراً؛ بل مهندس بيئة يعرف كيف يسخّر تضاريس الأرض لخدمة أهدافه.


قراءة تفاصيل الماضي من الجوّ

لولا التقنيات الحديثة مثل المسح بالليدار، لبقيت هذه الأسرار مطمورة تحت الغطاء النباتي قروناً أخرى. فقد كشفت الصور الجوية أن الجدران الحجرية بعرض يتراوح بين متر ومتر ونصف، مصطفة كأذرع ضخمة توجه الحيوانات، بينما استُخدمت الانحدارات الطبيعية لتشكيل نهاية المصيدة. كل تفصيلة في التصميم كانت محسوبة بعناية لتنسجم مع طبيعة المكان.

وتبين من اختبارات الكربون المشع أن هذه الهياكل كانت مهجورة قبل نهاية العصر البرونزي المتأخر، ما يجعلها من أقدم أنظمة الصيد الحجرية في أوروبا حتى اليوم.

ذو صلة

ومن هنا تتضح العلاقة بين التقدم التقني الحديث والقدرة على إعادة قراءة التاريخ الطبيعي للإنسان.

يكشف هذا الاكتشاف الفريد عن جانب مدهش من ذكاء الإنسان القديم وقدرته على تحويل مساحات الطبيعة إلى أدوات للبقاء. فالهياكل الحجرية في هضبة الكارست ليست مجرد حجارة مصطفة، بل شاهد حيّ على التعاون والابتكار منذ آلاف السنين، وتذكير بأن عبقرية التصميم البشري ضاربة الجذور في عمق التاريخ.

ذو صلة