الذكاء الاصطناعي يُحيي صوتاً من تحت رماد فيزوف: فكّ شفرة لفافة عمرها 2000 عام

3 د
استخدم الذكاء الاصطناعي لكشف أسرار مخطوطات دفنت تحت بركان فيزوف قبل ألفي عام.
تقنيات التصوير المبتكرة حمت اللفائف البركانية دون الحاجة لفتحها فعليًا.
تم التعرف على مؤلف النص كالفيلسوف الإبيقوري فيلوديموس بفضل هذه التقنية.
مبادرة "تحدي فيزوف" تشجع على استخدام الذكاء الاصطناعي لحل ألغاز اللفائف المغلقة.
المشروع نجح في قراءة أول كلمة من لفافة قديمة، مما يفتح آفاقًا جديدة للاكتشافات.
تخيل أنك تقف أمام كنز معرفي غامض توقفت عقاربه لحظة انفجار بركان قديم. هذا بالضبط ما شعرت به مجموعة من الباحثين وهم يعلنون استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي لكشف محتويات لفة بردية قديمة متفحمة يعود تاريخها إلى ألفي عام، عثر عليها تحت ركام مدينة هيركولانيوم، التي دُفنت بالكامل بسبب انفجار المدمر.
اللفة المعروفة باسم (PHerc.172) تمثل إحدى عشرات المخطوطات التي حفظها الرماد البركاني والفحم لقرون طويلة، وهو ما جعل محاولة فتحها بالطرق التقليدية مخاطرة قد تدمرها نهائيًا. لكن التقنيات الحديثة، وخاصة التصوير بالأشعة السينية والحوسبة المتقدمة، قدمت حلًا مثاليًا لهذه العقبة التقليدية.
وفي هذا السياق، نجح فريق من جامعة كنتاكي الأمريكية في تطوير تقنية مبتكرة تقوم على التصوير المقطعي الدقيق "ميكرو سي تي"، حيث صمموا برنامجًا رائعًا أطلقوا عليه اسم "Volume Cartographer"، أو "رَاسم الحجم"، مهمته الكشف عن طبقات الحبر داخل المخطوطة دون اللجوء لفتحها الفعلي. من ثم تأتي مهمة الذكاء الاصطناعي عبر تدريب شبكة عصبية قادرة على إدراك آثار حبر خافتة بعيدة جدًا عن إمكانية الإدراك البشري المباشر.
وبفضل تلك التقنية المتميزة، تم الكشف عن هوية المؤلف ونصه لأول مرة، ليتضح أنه الفيلسوف الإبيقوري المعروف "فيلوديموس"، وتحديدًا مؤلفته التي تتحدث عن مفهوم "الرذائل والفضائل"، وهو نص لم تُعرف تفاصيله من قبل. النص المكتشف حمل عنوانًا ملفتًا للانتباه "عن الرذائل، والفضيلة المناقضة لها، ومَن تتجسد فيهما، وأمور تتعلق بذلك"، وهو بمثابة دليل اجتماعي وأخلاقي من العصور القديمة، يناقش الفضائل وكيفية تجنب الإنسان للصفات والسلوكيات السلبية، وهو ما يربط عالمنا الحديث مباشرة بتطلعات الإنسانية القديمة نحو تحسين الذات وتطوير الأخلاق الشخصية.
لم يكن هذا الاكتشاف مجرد نجاح فردي، بل يعكس أيضًا مبادرة كبرى أطلق عليها "تحدي فيزوف"، الذي بدأ عام 2023 بهدف تحفيز العلماء والهواة لتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي وخوارزميات التعلم العميق لفك شفرة آلاف اللفائف التي لا تزال مغلقة ومحفوظة تحت الرماد. المبادرة تسمح للمشاركين من أنحاء العالم باستخدام نماذج الحوسبة العميقة، كالشبكات العصبية وتحليل البيانات، لاستعادة ما خالفته الظروف الطبيعية طوال ألفي عام.
وبالفعل، سجل هذا المشروع نجاحًا لافتًا عندما تمكن المشاركون، في أكتوبر الماضي، من قراءة أول كلمة من لفافة لم تُفتح من قبل، وكانت الكلمة ببساطة "أرجواني". وهذه الكلمة، رغم بساطتها، أكدت الإمكانات الهائلة لهذا الأسلوب العلمي الحديث في الكشف عن مزيد من النصوص الفلسفية والأدبية، التي يعتقد العلماء أن بعضها قد يعود لفيلسوف الحكمة إبيقور نفسه أو لتلامذته الذين غابت عنا كتاباتهم منذ قرون.
وإن كنا اليوم نعيش في زمن تكنولوجيا وتقنيات فائقة التطور، فمن المثير أن يكون مفهومان متباعدان كفلسفة العصور القديمة وأحدث تقنيات الحاضر مترابطين بهذا الشكل. ولعل الخطوة التالية في استثمار هذا الإنجاز الاستمرار في تطوير برامج التحليل والحفريات الافتراضية لتسريع عملية اكتشاف مزيد من هذه الكنوز الفكرية والتاريخية، ما قد يسمح بالكشف عن مكتبات كاملة تدلنا أكثر على طريقة حياة وتفكير أسلافنا القدماء.
لعل هذا الإنجاز المهم سيسجل في تاريخ العلوم كأحد أبرز الأمثلة على ما يمكن للتقنية اليوم أن تحققه، وربما سيشجع هذا الاكتشاف الفرق البحثية المستقبلية على تضييق التركيز نحو استثمار أفضل تقنيات العلم الحديث للإنقاذ والاكتشاف بدقة أكبر. بل من المأمول أن تُضاف جمل ربط أكثر وضوحًا، تربط بين التقنيات المستخدمة وآليات بحثية أخرى في مجالات مماثلة، ليمنح القارئ تصورًا أفضل لكيفية تطور الاكتشافات العلمية باستخدام الذكاء الصناعي في المستقبل القريب.