رصاص ما قبل التاريخ.. سمٌّ ساهم في تطوّر دماغ الإنسان

3 د
واجه أسلافنا التعرض للرصاص منذ ملايين السنين، مما أثر في تطور الدماغ.
أظهرت الدراسة أن النياندرتال كانوا أكثر حساسية للرّصاص مقارنة بالإنسان الحديث.
تم تحليل أسنان قديمة لتحديد فترات التعرض للرصاص وتأثيراته على التطور البشري.
أظهرت الاختبارات الجينية أن مقاومة الإنسان الحديث للرّصاص ساهمت في تعزيز التواصل واللغة.
لم يكن التعرّض للرصاص حكراً على عصرنا الصناعي كما كنا نعتقد، بل رافق أسلافنا منذ ملايين السنين وربما أسهم في تشكيل قدراتهم العقلية واللغوية. هذا ما كشفته دراسة دولية حديثة قادها باحثون من جامعة ساذرن كروس الأسترالية وعدد من المراكز البحثية في الولايات المتحدة، نُشرت نتائجها في مجلة ساينس أدفانسز العلمية.
تشير النتائج إلى أن أجداد الإنسان تعرّضوا بشكل متقطع لهذا المعدن السام لأكثر من مليونَي عام، وأن هذا التعرّض كان له تأثير في تطوّر الدماغ والسلوك وربما حتى في نشأة اللغة. ومن المثير أن النماذج المخبرية لأدمغة النياندرتال كانت أكثر هشاشة أمام سمّية الرصاص مقارنة بأدمغة الإنسان الحديث، ما يرجّح أن مقاومة هذا المعدن قد منحت أسلافنا ميزة تطوّرية مهمة.
وهنا تبرز الحلقة التي تربط بين تطوّر القدرات العقلية للإنسان وبين الضغوط البيئية التي تعرّض لها عبر العصور.
أدلة من الأسنان القديمة
اعتمد الفريق البحثي على تحليل 51 سنّاً متحجرة لأنواع من أشباه الإنسان والقردة العليا مثل الأوسترالوبيثيكوس والنياندرتال والهومو سابينس. ومن خلال تقنيات الجيوكيمياء عالية الدقّة، تبيّن وجود “أشرطة رصاص” داخل المينا والعاج تكونت أثناء الطفولة، دالةً على فترات متكررة من امتصاص الرصاص من البيئة أو من مخزونه داخل العظام خلال فترات المرض أو الإجهاد. هذه “البصمات الكيميائية” تمدنا بسجلٍّ متواصل لحوادث التسمّم القديمة.
ويُظهر هذا الاكتشاف أنّ التعرّض للرصاص لم يبدأ مع المناجم أو الدهانات الحديثة، بل كان جزءاً من المشهد البيئي الذي نشأ فيه الإنسان على مدى عصور طويلة.
وهنا ينتقل البحث من أرض الحفريات إلى المختبر، لمعرفة كيف انعكست تلك المادة السامة على تطوّر الدماغ فعلياً.
الجين المسؤول عن مقاومة السمّ
في التجربة المخبرية، استخدم العلماء ما يعرف بـ«الأورجانويد»؛ وهي نماذج ثلاثية الأبعاد صغيرة تُحاكي أنسجة الدماغ البشري. وقارنوا تأثير الرصاص على نسختين من جين تطوري رئيسي هو NOVA1: نسخة الإنسان الحديث ونسخة النياندرتال. لوحظ أن الجين القديم كان أكثر حساسية لتأثير الرصاص، ما أدى إلى اضطرابات في جين آخر هو FOXP2 المرتبط بتطوّر النطق واللغة. أما النسخة الحديثة من الجين فبدت أكثر قدرة على مقاومة هذا التأثير.
ويشير الباحثون إلى أن هذا التباين الجيني ربما وفر للإنسان الحديث حماية تطوّرية من التسمّم العصبي، وساهم بشكل غير مباشر في تعزيز مهارات التواصل واللغة. إنها مفارقة لافتة: العنصر الذي كان يهدّد الحياة ربما ساهم في ازدهار الذكاء البشري.
وهذا يفتح الباب أمام فهم أعمق لكيفية تفاعل البيئة والجينات في مسار التطور.
رصاص الماضي وواقع اليوم
بينما يعود مصدر الرصاص قديماً إلى المياه والتربة وربما النشاط البركاني، فإنّ مصادره اليوم تتمثل في الصناعة والعوادم والدهانات، مما يجعله أحد أخطر الملوثات على صحة الأطفال خاصةً في الدول النامية. وتذكّرنا هذه الدراسة بأن العلاقة بين الإنسان والبيئة علاقة وراثية متشابكة، حيث يترك كل عنصر أثره في جيناتنا وسلوكنا عبر الأجيال.
ويؤكد العلماء أن فهم هذا الإرث السام قد يساعد على تفسير اختلاف قابلية البشر المعاصرين للتأثر بالرصاص، وربما يوجّه جهود الوقاية والعلاج مستقبلاً.
إرث بيئي طويل الأمد
في ختام الدراسة، شدّد فريق البحث على أن اكتشاف تاريخ الرصاص في أجساد أجدادنا يعيد كتابة فصل أساسي في قصة الإنسان، إذ يبرهن على أن التطوّر لم يكن نتيجة طفرة جينية بحتة، بل نتاج تفاعل دائم بين **العوامل البيئية** والضغوط التطورية والسموم الطبيعية التي واجهها الإنسان عبر العصور.
وهكذا، تكشف لنا آثار رصاصٍ قديم مدفون في الأسنان عن فصلٍ خفيّ من تاريخ تطوّرنا، حين كان السمّ نفسه جزءاً من العملية التي صاغت عقولنا ولغتنا وهويتنا البشرية.