فيزيائيون يكسرون قوانين الطبيعة ويحوّلون الرصاص إلى ذهب بسرعة الضوء!

3 د
نجح علماء سيرن في تحويل الرصاص إلى ذهب باستخدام مصادم الهادرونات الكبير.
يؤدي التصادم بسرعة شبه ضوئية إلى انتزاع بروتونات من نوى الرصاص لتحويلها إلى ذهب.
النتائج توفر فهماً جديداً لتفاعلات الفوتونات والنوى ببنى كهرومغناطيسية شديدة.
التحول يكشف عن تكوين عناصر جديدة ويسبر أغوار نشأة العناصر الثقيلة في الكون.
في إنجاز طالما حلم به الخيميائيون، تمكن علماء فيزياء من مركز الأبحاث الأوروبي **«سيرن»** من تحويل عنصر الرصاص إلى ذهب، مستعينين بأقوى مُسرّع جسيمات في العالم، في تجربة لا تتجاوز لحظتها أجزاءً من الثانية.
وسط الأنفاق الممتدة تحت الحدود السويسرية الفرنسية، وعلى عمق يفوق مئة متر تحت الأرض، دبت الحياة في فكرة كانت أقرب إلى الأسطورة. فقد أعلن فريق **تجربة ALICE** في **مصادم الهادرونات الكبير (LHC)** عن رصد عملية تحوّل دقيقة لذرات الرصاص إلى ذرات ذهب، بفضل تصادمات شبه ضوئية بين أنوية الرصاص المسرَّعة إلى سرعات هائلة.
وهذا يفتح الباب لفهم جديد للعلاقات بين البنية الذرية والقوى الخفية التي تتحكم في المادة. إذ لا يتعلّق الأمر بصناعة كنوز، بل بكشف أسرار الفيزياء النووية عالية الطاقة. نشرت النتائج في دورية *Physical Review C*، مؤكدة ولادة نحو **86 مليار نواة ذهبية** خلال الفترة من 2015 إلى 2018، وإن لم تتجاوز كتلها الإجمالية جزءاً صغيراً جداً من الغرام.
التحويل من الخيال إلى الواقع العلمي
لطالما راودت فكرة **التحول العنصري** عقول العلماء عبر القرون، من أساطير **الخيمياء القديمة** إلى مختبرات الفيزياء الحديثة. لكن في «سيرن»، يتم هذا التحوّل عبر **التفكك الكهرومغناطيسي** الناتج عن تصادمات قريبة جداً بين أنوية الرصاص. فعندما يفقد الرصاص ثلاثة بروتونات، يصبح ذهباً بخواصه النووية الكاملة، قبل أن يتحلل بعد أقل من ميكروثانية.
ويمثل هذا الاكتشاف خطوة مهمة في فهم **تفاعلات الفوتونات والنوى** داخل الحقول الكهرومغناطيسية الشديدة، وهي ظاهرة لم يتم توثيقها بهذه الدقة من قبل. وقالت الفيزيائية **يوليانا ديميترييفا** من فريق ALICE إن هذا «أول رصد تجريبي مباشر لإنتاج الذهب داخل مصادم الهادرونات الكبير».
وهذا يربط بين الطموحات القديمة للإنسان في تحويل المعادن وبين أهداف العلم المعاصر في سبر أسرار الكون الأولي. فكمية الذهب الناتجة في التجربة لا يمكن وزنها تقريباً، لكنها تفتح نافذة على طريقة تشكّل العناصر الثقيلة في البيئات الكونية القصوى.
ما وراء الذهب: دروس في فيزياء الفوتونات
التجربة لم تُنتج الذهب وحده؛ فبحسب الفريق، أدّت الاصطدامات نفسها إلى تكوين عناصر أخرى مثل **الثاليوم** و**الزئبق**، بنسب تفوق إنتاج الذهب بكثير. ورغم ضآلة الكمية، إلا أن الأمر منح العلماء رؤية جديدة حول كيفية سلوك النواة الذرية تحت تأثير مجالات كهرومغناطيسية مكثفة.
وقد أوضح الفيزيائي **جون جوويت** أن هذه القياسات الدقيقة تُستخدم لتحسين نماذج **خسارة الجسيمات** وضبط أداء المصادم في التجارب المقبلة، مشدداً على أن فوائدها تمتد إلى تصميم مُسَرّعات المستقبل.
نافذة على الماضي البعيد
ويشير الباحثون إلى أن الظروف التي سببت تحول الرصاص إلى ذهب تشبه في بعض خصائصها ما حدث في أول لحظات **الانفجار العظيم**، حين كانت المادة جميعها في حالة من الطاقة القصوى. لذا فإن رصد هذه التفاعلات الدقيقة اليوم، يتيح إعادة بناء مشاهد من ميلاد الكون وفهم آليات **تكوين العناصر الثقيلة** في النجوم المتفجرة.
وهذا يربط بين جزيئات الرصاص التي تتطاير داخل المصادم وبين الذرات الأولى التي كوّنت مجراتنا عبر مليارات السنين، في دائرة مذهلة من العلم والاكتشاف.
في النهاية، قد لا يكون الهدف من هذا الإنجاز هو صناعة الذهب بحد ذاته، بل تسليط الضوء على الروابط العميقة بين **الفيزياء النووية** و**تاريخ الكون**. فمن أنفاق «سيرن» إلى أعماق الفضاء، يبدو أن حلم الخيميائيين بات يحمل معنىً جديداً؛ ليس في ثراء المادة، بل في غنى المعرفة.