نظارات تبدو عادية… لكنها تراقبك خلسة! هل انتهى زمن الخصوصية؟

4 د
الشباب الرقمي يتحركون ضد نظارات التجسس التي تهدد الخصوصية اليومية.
حادثة بنيويورك كشفت عن مخاوف الزبائن من تصويرهم دون علمهم.
النقاش يتصاعد حول قبول المجتمع لتقنيات النظارات الذكية المزودة بكاميرات.
الجيل Z يطالب باحترام الخصوصية والرضا الصريح قبل التصوير أو التسجيل.
تعكس القضية صدامًا ثقافيًا حول الخصوصية واستخدام التكنولوجيا الحديثة.
تخيل أن تذهب لصالون تجميل لتكتشف أن الشخص الذي يقدم لك الخدمة يرتدي نظارات عادية الشكل لكنها قادرة على تصويرك دون علمك. هذا ليس مشهداً من فيلم خيال علمي، بل واقعٌ أثار موجة غضب بين شباب الجيل الرقمي، الذين نشأوا وهم يوثقون حياتهم على الإنترنت، لكنهم اليوم يقودون حملة غير مسبوقة ضد الغزو المتزايد للخصوصية من خلال تقنيات النظارات الذكية المزودة بكاميرات مثل نظارات "ميتا راي بان".
وسط تفشي الأجهزة الذكية التي تلتقط الصور والفيديوهات دون إثارة انتباه أحد، وقع حادث مؤخراً في مركز تجميل بنيويورك كان كافياً لإشعال فتيل النقاش: إحدى الشابات وجدت موظفة ترتدي هذه النظارات المزودة بعدسة دقيقة، وبرغم تطمينات بأن البطاريات نفدت وأن الكاميرا غير مفعلة، لم تهدأ مخاوف الزبونة، فشارك مئات غيرها تجاربهم المتضاربة حول خطر أن تُلتقط لهم صور أو يُسجل لهم فيديو في أي لحظة ودون إذن.
وهذا الموقف الفردي فتح الباب واسعاً لمناقشة أوسع على مواقع التواصل حول مدى تقبل المجتمع –وخاصة جيل الشباب– لفكرة الاقتحام التكنولوجي للحياة اليومية. آلاف المقاطع على TikTok ووسائل التواصل الاجتماعي تتناول هذه القضية، وتُظهر غضباً متنامياً من فكرة أن يعيش الإنسان حياتَه غير مدرك ما إذا كان هناك من يلتقط له صورة أو يسجل صوته أو يصور فيديو دون موافقته.
جيل الإنترنت يرسم خطوطًا حمراء جديدة
وتبرز المفارقة هنا: الجيل Z المعروف بكونه "جيل الإنترنت" هو ذاته الذي يحتج اليوم على بث تفاصيل حياته قسراً عبر الأجهزة الذكية الجديدة. فانيسا أوريزكو، شابة تبلغ من العمر 26 عاماً، علّقت قائلة: "تخيل أن تمر بيوم صعب في عملك، وتظن أن لحظاتك الخاصة في مأمن، ثم تكتشف لاحقاً أنها صارت جزءاً من مقاطع أحدهم على تيك توك بسبب نظارات ميتا!" هذه المخاوف لم تعد نادرة بل تحولت إلى تيار سائد بين رواد الشبكة من الأصغر سناً الذين تربوا على ثقافة المشاركة الرقمية، لكنهم اليوم يرفعون شعار ضرورة الحصول على الموافقة الصريحة (الرضا) قبل التصوير أو تسجيل أي شخص آخر.
ويتضح من تفاعل المنصات أن الشباب لم يعودوا يرون في مشاركة كل شيء مكسباً، بل صاروا أكثر وعياً بما يسمى البصمة الرقمية، والأثر المستديم لأي صورة أو فيديو ينتشر دون رقابة. وهنا ننتقل لمعالجة فرضيات الخصوصية الجديدة التي يبتكرها هؤلاء لمواجهة الغزو التكنولوجي.
التكنولوجيا الحديثة بين سهولة الاستخدام ومخاوف التطفل
من الطبيعي أن الشركات التقنية تروج لهذه النظارات باعتبارها ابتكاراً يسهل التقاط اللحظات "Hands-Free"، أي دون إمساك الكاميرا أو الهاتف. فمن لا يرغب بتوثيق مغامراته أو مشاهداته اليومية بضغطة زر – أو بلمحة عين؟ هنا تبرز المفاضلة الصعبة بين سلاسة الاستخدام والاحتفاظ بحقوق الخصوصية. إذ تشير تحليلات السوق إلى ارتفاع مبيعات نظارات ميتا الذكية بشكل ملحوظ، مع توقعات بتجاوز أربعة ملايين وحدة مباعة في أمريكا وحدها خلال العام المقبل.
ومع ذلك، فإن الأرقام وحدها لا تلغي جدية التساؤلات الأخلاقية. فالكثير من الشابات والشبان يعبّرون عن قلقهم من أن مؤشرات الأمان –مثل ضوء التنبيه بأن الكاميرا تعمل– يمكن ببساطة التحايل عليها، وسط دروس وتوجيهات تنتشر على الإنترنت حول كيفية تعطيل هذه الإشارة لتعمل النظارة خِلسة. يضاف إلى ذلك أن الشخص الذي يرتدي النظارة يستطيع توجيهها كيفما يشاء، دون أن يلفت انتباهاً مثلما يحدث عند رفع الهاتف للتصوير، مما يزيد من فرص التصوير الخفي.
ترتبط هذه الإشكالية ارتباطاً وثيقاً بثقافة الرضا والخصوصية التي أصبح جيل الشباب يقدّسها اليوم، وسط تغير القوانين الاجتماعية لتواكب التكنولوجيا، وهو ما يُعيد تعريف معنى الأمان الرقمي والحدود الشخصية.
هل نحن أمام صدام ثقافي حول الخصوصية؟
ومن اللافت أن النظرة للخصوصية تختلف بين الأجيال. الأجيال السابقة كان لها ميل للمشاركة الواسعة ونشر التفاصيل اليومية بلا وعي حقيقي بالمخاطر، لكن فئة الشباب الجديدة –التي تعلمت من عشرات القصص حول فقدان الوظائف أو التعرض للإساءة الإلكترونية بسبب صورة أو فيديو– باتت أكثر حرصاً، وتعتمد سياسات صارمة في انتقاء ما تنشره أو ما تُسمح بمشاركته عنها.
وتتكون لدينا هنا ملامح صراع ثقافي بين سهولة العيش في مجتمع رقمي مفتوح، والرغبة الطبيعية في حماية كيان الإنسان وحفظ خصوصيته. ومع تزايد الحديث عن المراقبة، والتحكم بالبيانات، وانتهاك الأمان الشخصي عبر تكنولوجيا مثل الذكاء الاصطناعي والنظارات الذكية، يجد الشبان أنفسهم مضطرين لرسم حدود ونظم خاصة لتعاملاتهم مع الأصدقاء والعائلة فيما يتعلق بمشاركة المحتوى الشخصي أو العفوي.
ونلحظ بأن هذا الصدام قد أصبح جزءاً من الحياة اليومية: كثير من الفتيات مثلاً يبدين خوفهن من نشر مقاطع دون علمهم، حتى أن دروساً على "تيك توك" توضح للناس كيفية التصوير السري، بينما انتشر شعور عام بأن التكنولوجيا لم تعد تترك لأحد مجالاً للتمتع بلحظاته الخاصة.
وفي النهاية، مع طفرة ثورة التكنولوجيا وتوسع ميزة الذكاء الاصطناعي، سيبقى السؤال مطروحًا: إلى أي مدى سنسمح للتقنيات الحديثة باختراق تفاصيل حياتنا اليومية؟ وهل سينجح صوت جيل الشباب، الأكثر ارتباطاً بالإنترنت والأكثر وعياً بمخاطره، في إعادة ضبط المعايير وصياغة قوانين اجتماعية جديدة تحد من تغول الأجهزة الذكية وتحمي بقية خصوصيتنا؟
من الواضح أن هذه المعركة مجرد بداية لنقاش طويل حول معنى الخصوصية في عصر تزداد فيه القدرة على مراقبة وتسجيل أي لحظة، وأن الضغط الشعبي المتزايد قد يدفع شركات التكنولوجيا لوضع ضوابط أخلاقية وتقنية تحمي حقوق الأفراد وتعيد الثقة في الفضاء العام.