ذكاء اصطناعي

نهر جليدي يتلوّن بالوردي… تجربة علمية تكشف تسارع الذوبان في جبال الألب

محمد كمال
محمد كمال

3 د

صبغ العلماء مياه نهر الرون الجليدي بلون وردي لفهم ذوبانه وتسريع تغير المُناخ.

فقد نهر الرون 60% من كتلته بسبب ذوبان الجليد من منتصف القرن التاسع عشر.

الصبغة تساعد في تتبع حركة مياه الذوبان وتأثير الاحترار العالمي على الجليد.

يسعى المشروع لفهم تأثير الذوبان على النظم الطبيعية والاقتصادية في أوروبا.

تعد تقنيات التتبع الهيدرولوجي أداة لفهم تسارع ذوبان الجليد والتغير المناخي.

في مشهد لم تعهده العيون من قبل، أذهل فريق من العلماء السويسريين الجميع حين صبغوا مياه ذوبان نهر الرون الجليدي بلون وردي زاهٍ. هذه التجربة المبتكرة تقودها جامعة ETH زيورخ وتأتي في إطار محاولة لفهم سرعة ذوبان الأنهار الجليدية في أوروبا تحت وطأة التغير المناخي المتسارع. ففي حين تبدو الصور وكأنها لوحة فنية غريبة، إلا أن الهدف منها أكثر جدية مما يُخيّل للكثيرين، إذ تهدف إلى جعل ما هو خفيّ، مرئياً أمام المجتمع العلمي والعامة على حد سواء.

تشير البيانات إلى أن نهر الرون الجليدي، المتربع بين جبال الألب السويسرية، فقد نحو 60% من كتلته منذ منتصف القرن التاسع عشر. الصبغة المستخدمة في التجربة ليست من قبيل التجميل أو الدعاية، إنما هي مادة تتبع هيدرولوجية تُستخدم كمؤشر علمي لرصد حركة مياه الذوبان وتوزعها أثناء تدفقها من قلب النهر الجليدي وصولاً إلى مجاري الأنهار الأوروبية الكبرى. هذا الابتكار يساعد الباحثين على فهم أدق لتأثيرات الاحترار العالمي الذي صارت أوروبا – وفق آخر الإحصاءات المناخية – القارة الأكثر ارتفاعاً في درجات الحرارة حول العالم، بمعدل يكاد يحقق الضعف مقارنة بباقي القارات، بحسب تقارير صادرة عن جهات مثل NPR.


تأثير ذوبان الأنهار الجليدية على النظم الطبيعية والاقتصادية

هذا التغير السريع يعيد رسم جغرافيا البيئة الألبية، ويهدد بحذف سطور كاملة من تاريخ المنطقة المرتبط بوجود الأنهار الجليدية مثل نهر الرون. فالمياه التي تتسرب من النهر الجليدي المتقلص تنبع منها الحياة في وادي الرون، إذ تغذي بحيرة جنيف، وتتدفق إلى فرنسا وصولاً إلى البحر المتوسط. تعتمد الزراعة، والتجارة، وتوليد الطاقة الكهرومائية، وحتى حالة الأنظمة البيئية الهشّة، على انتظام تدفق هذه المياه الجليدية.

لكن مع كل سنة، يصبح هذا الرافد المائي غير قابل للتنبؤ، وتتأرجح معدلات الجريان بين فيضانات غير معتادة وفترات جفاف مقلقة، ما يلقي بظلاله على قطاعات الشحن، ومستوى خزانات المياه، وقدرة الري الزراعي على تلبية الحاجة. وهذا يوضح كيف أن تأثير ذوبان الجليد لا ينحصر في الجغرافيا فحسب، بل يمتد ليطال الأمن المائي والغذائي لقطاعات واسعة من سكان أوروبا.

ومن هذا المنطلق العلمي، نجد أن الصبغة الوردية التي اكتسحت المنحدرات الجليدية ليست إلا وسيلة صارخة لتحويل المسائل المعقدة بالأرقام والنظريات إلى صورة بصرية صادمة يسهل متابعتها. وفق ما نقلته مجلة “نيو ساينتست”، الهدف هو مراقبة معدل تدفق المياه بالعين المجردة وتفسير سلوك المياه الذائبة على أرض الواقع. وهكذا توضع عملية ذوبان الجليد تحت المجهر أمام الطلاب والباحثين، وتتحول الأنهار إلى مختبرات بيئية حية لاختبار مفاهيم التغير المناخي.


تقنيات التتبع الهيدرولوجي: رؤية جديدة لتسارع ذوبان الجليد

الجدير بالذكر أن تقنية “التتبع الهيدرولوجي” القائمة على الألوان، توفر للعلماء خريطة واضحة لشبكات المياه الجوفية والسطحية. فهي تتيح لهم قياس سرعة رحلة مياه الذوبان من الكتلة الجليدية إلى النهر، وتحديد أماكن تسرب المياه أو بقائها لفترات ضمن الأنهار الجليدية نفسها قبل أن تشق طريقها إلى الأنهار الفرعية والرئيسية. هذه الطريقة لا تمنحنا فهماً لكيفية وسرعة تقلص الجليد فحسب، بل تُعد مؤشراً دقيقاً للاستجابة المناخية ونظام الإمداد المائي المستقبلي الذي سينعكس على الاقتصاد والبيئة والبشر.

وهنا تكتمل الصورة عندما نعلم أن مشاركة طلاب الجامعات السويسرية في هذا المشروع الميداني جعلت منه أكثر من تجربة علمية. فقد أضحت جبال الألب نفسها قاعة دراسية مفتوحة يتدرب فيها الجيل الجديد على فهم وتوثيق ظاهرة هي من أكبر تحديات العصر الحديث.

ذو صلة

قبل أن يتلاشى اللون الوردي في مياه الذوبان المتدفقة، يترك خلفه خيوطاً من البيانات الدقيقة التي تشكل خرائط لنقاط الضعف وتسارع فقدان الجليد في أوروبا. ومهما بدت التجربة غريبة في مظهرها، إلا أن فحواها رسالة واضحة إلى المجتمعات: ذوبان الأنهار الجليدية يخبئ بين قطراته مصير مصادر المياه وأمن القارة البيئي في العقود المقبلة.

ختاماً، يمكن القول إن تجربة صبغ مياه نهر الرون الجليدي لم تكن مجرد حدث بصري عابر، بل جرس إنذار علمي يذكرنا بأن تغيّر المناخ لا يعرف حدوداً، وأن الإجراءات العلمية الجريئة قد تكون فرصتنا الأخيرة لإدراك حجم الخطر وتغيير مسارنا لحماية الأنهار الجليدية الركيزة لنظام الحياة في أوروبا.

ذو صلة