الذرات تُمطِر: تجربة فيزيائية مذهلة تكشف لأول مرة عن ظاهرة “المطر الكمي”

3 د
كشف الباحثون لأول مرة عن "المطر الكمّي" باستخدام نظائر البوتاسيوم والروبيديوم الباردة جداً.
دمجت التجربة قوى كلاسيكية وكمية لتشكيل قطرات كميّة متعددة وديناميكياً مشابهة للسوائل.
تمكن العلماء من وصف انقسام القطرات الكميّة عبر الجمع بين النتائج المختبرية والمحاكاة الحاسوبية.
يفتح هذا الاكتشاف أبواباً لتطبيقات تكنولوجية كمومية تعتمد على قطرات كمية مستقرة.
عندما نسمع مصطلح "الفيزياء الكمية"، يخطر ببالنا عادةً شيء معقد ومبهم. لكن ما ظهر في تجربة حديثة قام بها باحثون من إيطاليا وإسبانيا قد يبدو مألوفًا إلى حدٍّ بعيد، رغم أنه يعود لعالم الفيزياء الكمية العجيب.
هذا الاختراق العلمي الجديد كشف للمرة الأولى ظاهرة يطلق عليها العلماء "المطر الكمّي"، في سائل فريد من نوعه مكوّن من نظائر البوتاسيوم والروبيديوم في حالة شديدة البرودة، وهو ما يمهد لجسر يربط بين قوانين حركة السوائل التي نراها في حياتنا اليومية وبين تلك المرتبطة بالفيزياء الكمية العميقة والمتشابكة، تم نشر الدراسة في مجلة "Physical Review Letters"، وهو ما يؤكد أهمية ومصداقية هذه النتائج الواعدة.
عوالم الفيزياء تتلاقى
الباحثون الإيطاليون والإسبان عملوا معًا لدراسة سلوك هذا الغاز الذري البارد جداً، والذي يُظهر خصائص مدهشة تجعله يشبه السائل، ولو أنه في واقع الأمر أكثر غرابةً وتعقيداً. في الظروف العادية، عندما يقع المطر على نافذة المنزل، فإننا نشاهد مجموعة من القطرات تتداخل وتنساب تحت تأثير الجاذبية.
هذه الظاهرة التي تبدو عادية لنا تُعرف علمياً بـ "عدم استقرار بلاتو-رايلي"، وهي تحدث بسبب تفاعل القوى الجزيئية في الماء والتي تدفع القطرات إلى أن تتجمع أو تتفتت حسب ظروف معينة.
ما الجديد إذًا؟
الجديد هو أن علماء الفيزياء تمكنوا من مراقبة شيء مشابه في عالم الكم، وهو عالم مختلف جداً عن عالمنا العادي، حيث لا تتصرف الذرات كالكرات الصغيرة التي نتخيلها عادة. وبدلاً من ذلك، تفقد هذه الذرات في درجات الحرارة القريبة من الصفر المطلق هويتها الفردية، وتندمج في صورة أشبه "بسحابة" واحدة، يحكمها مبدأ الاحتمالات الكمية وليس الحركة الكلاسيكية التي نعرفها.
لكن حتى في هذه الحالة الغريبة، الصراع الكلاسيكي بين القوى، والذي يؤدي في المياه إلى تشكيل قطرات منفصلة، يظهر ثانياً، ولكنه هذه المرة بصورة كمية، وهو ما يُطلق عليه العلماء حاليًا "عدم استقرار كمي". يحدث ذلك بسبب ظاهرة كميّة تُسمى "تصحيح لي-هوانغ-يانغ"؛ وهذه القوى الكمومية تدفع سحابة الغاز الذري الباردة نحو تكوين "قطرات كمية" صغيرة ومتعددة.
كما أوضح الباحث لوكا كافيتشيولي، المختص في الفيزياء النظرية من المعهد الوطني البصري الإيطالي وأحد المشاركين الرئيسيين في هذا المشروع، بقوله:
"للمرة الأولى، استطعنا رؤية ديناميكية مشابهة للسوائل الكلاسيكية التي نعرفها بالفعل، وذلك في غاز ذري بارد جداً – ما يمنحنا فرصاً جديدة لفهم هذه الحالات الغامضة للمواد"
كيف تمت التجربة؟
في المختبر، تم تحضير خليط بارد جدًا من نظائر الروبيديوم والبوتاسيوم، وإطلاقه داخل قناة ضيقة مخصصة أُعدت بشكل خاص تسمى "الدليل الموجي" أو Waveguide، وهو وعاء يتحكم في حركة الغاز ويجبره على اتخاذ أشكال معينة حسب طبيعته الكمية.
لدهشة العلماء، بعد إطلاق الخليط في القناة، تشكلت ظاهرة فريدة: مجموعات من قطرات سائلة لكنها "كمية" أي تخضع بالكامل للقواعد الكمية، وبدأت هذه القطرات الصغيرة بالظهور والانقسام تماماً كما يحدث عند سقوط الأمطار على سطح زجاجي.
تقول كيارا فورت، باحثة الفيزياء من جامعة فلورنسا وأحد أعضاء الفريق البحثي:
"نجحنا من خلال دمج نتائج المختبر مع المحاكاة الحاسوبية في وصف وتفسير ديناميكيات انقسام القطرات الكمية ضمن نظرية مشابهة لعدم استقرار بلاتو-رايلي الشهير في السوائل التقليدية العادية".
ما هي الفوائد المحتملة لهذه الظاهرة؟
هذا الكشف قد يفتح الأبواب لتطبيقات تكنولوجية كمومية جديدة تعتمد على التحكم في تكوين وعزل قطرات كمية صغيرة ومستقرة، مما ينقل العلوم الكمية خطوةً أقرب لإنتاج مواد وأجهزة مستقبلية فريدة، من ضمنها مصفوفات مخصصة لتطبيقات الحوسبة الكمومية وتقنيات التخزين الكمية المتقدمة.
في النهاية، هذا الاكتشاف الجديد يعطينا فرصةً ممتازة لمراقبة الطبيعة وهي تمزج بين سلوكيات تبدو بسيطة ولكنها في الواقع تحمل لمسات من القوانين الفيزيائية الأكثر تعقيدًا وغموضًا في عالمنا. ما كان بالأمس مجرد ظاهرة قطرات نراها على نوافذ بيوتنا، أصبح اليوم بوابة مذهلة لفهم الفيزياء الكمية، وربما مستقبل التكنولوجيا بأكملها.