ذكاء اصطناعي

“الملاحة الكمية”: تقنية مذهلة تتيح تحديد المواقع بدقة عالية دون الحاجة إلى GPS أو الاتصال بالأقمار الصناعية

فريق العمل
فريق العمل

4 د

تواجه أنظمة الملاحة عبر الأقمار الصناعية مثل GPS مخاطر متعددة، من التشويش والهجمات السيبرانية إلى العواصف الشمسية التي قد تعطلها.

تعتمد الملاحة الكمومية على ظواهر فيزيائية فريدة، مثل التراكب والتشابك الكمومي، لتوفير دقة غير مسبوقة في تحديد المواقع.

يمكن أن توفر هذه التقنية حلولاً لمشاكل الملاحة في البيئات التي تفشل فيها الأقمار الصناعية، مثل تحت الماء أو داخل المدن المزدحمة.

لا تزال الملاحة الكمومية تواجه تحديات تتعلق بالحجم والتكلفة والاستقرار، لكن في حال التغلب عليها، فقد تصبح أساساً لأنظمة الملاحة المستقبلية.

لم تعد تكنولوجيا الكم حبيسة المختبرات، بل بدأت تتسلل إلى حياتنا اليومية، ومعها وعود بإحداث تحولات جذرية في مجالات متعددة، من الاتصالات إلى الحوسبة. لكن التأثير الأبرز قد يكون في مجال الملاحة، إذ يمكن أن تغير هذه التكنولوجيا الطريقة التي نتنقل بها في العالم.

تخيل غواصات قادرة على الإبحار في أعماق المحيطات دون الحاجة للصعود إلى السطح لتحديث موقعها، أو طائرات تحلق عبر القارات بدقة غير مسبوقة، دون أن تتأثر بانقطاع الإشارات. فرق الطوارئ قد تتمكن من التنقل داخل المباني المليئة بالدخان أو الأنفاق تحت الأرض دون أي خطأ في تحديد المواقع، بينما تستطيع المركبات ذاتية القيادة رسم مسارات مثالية وسط البيئات الحضرية المزدحمة.

قد تبدو هذه السيناريوهات وكأنها تنتمي إلى أفلام الخيال العلمي، لكنها قد تصبح حقيقة بفضل تقنية ناشئة تُعرف باسم الملاحة الكمومية. هذه التكنولوجيا الثورية قد تعيد تعريف مفاهيم الحركة والاستكشاف والاتصال بطرق لم يكن بالإمكان تصورها من قبل.


الأهمية المحورية لأنظمة الملاحة عبر الأقمار الصناعية

تُعد أنظمة الملاحة عبر الأقمار الصناعية، مثل نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، جزءًا أساسياً من حياتنا اليومية، حيث نعتمد عليها في التنقل، وطلب التوصيل، وحتى في تحديد المواقع الجغرافية للصور الفوتوغرافية. لكن تأثيرها لا يقتصر على توفير الراحة، بل يمتد إلى مجالات حيوية.

فإشارات التوقيت الصادرة عن الأقمار الصناعية تُستخدم في تنفيذ معاملات البورصة، وضبط توازن شبكات الكهرباء، وتوجيه الجرارات الزراعية ذاتية القيادة، وحتى في عمليات البحث والإنقاذ التي تعتمد على استجابات سريعة ودقيقة.

رغم كل هذه الفوائد، إلا أن أنظمة الملاحة التقليدية مثل GPS تواجه مشكلات عديدة، إذ يمكن التشويش على إشارات الأقمار الصناعية أو تعطيلها، سواء بسبب الحروب أو الهجمات الإلكترونية، أو حتى لأسباب تتعلق بالخصوصية، سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة. على سبيل المثال، تُظهر خرائط مثل "GPSJAM" مناطق التشويش على نظام GPS في الشرق الأوسط، ومحيط روسيا وأوكرانيا، وميانمار.

كما أن الفضاء ليس بيئة ثابتة، فالشمس تُطلق بين الحين والآخر كُتلًا هائلة من البلازما تُعرف بالعواصف الشمسية، والتي عند اصطدامها بالمجال المغناطيسي للأرض، قد تؤدي إلى اضطرابات في إشارات الأقمار الصناعية، وربما تتسبب بأضرار جسيمة تبعاً لشدة العاصفة.

وفي حال حدوث انقطاع في أنظمة الملاحة عبر الأقمار الصناعية، فإن الأمر لن يكون مجرد إزعاج، بل قد يهدد استقرار البنية التحتية الحرجة. تشير التقديرات إلى أن فقدان نظام GPS قد يكلف الاقتصاد الأمريكي وحده حوالي مليار دولار يوميًا، مع تداعيات كارثية على العديد من القطاعات المرتبطة به.


الملاحة الكمومية كبديل واعد

في بعض البيئات، لا تعمل إشارات الأقمار الصناعية بكفاءة، فهي لا تخترق المياه أو الأماكن تحت الأرض. وإذا حاولت استخدام خرائط Google في مدينة مزدحمة بناطحات السحاب، فقد تلاحظ اضطرابات في تحديد المواقع، بسبب انعكاس الإشارات أو ضعفها داخل المباني.

هنا يأتي دور الملاحة الكمومية، التي تعتمد على الظواهر الفريدة التي تحكم الجسيمات على المستوى الذري وما دون الذري، مثل التراكب الكمومي (حيث يمكن للجسيمات أن توجد في حالتين أو أكثر في نفس الوقت) والتشابك الكمومي (حيث تبقى الجسيمات مرتبطة ببعضها عبر الفضاء والزمن بطريقة غامضة تتحدى الفهم التقليدي).

رغم أن هذه التأثيرات حساسة للغاية، إلا أنها يمكن أن تُستخدم في تصميم حساسات كمومية ذات دقة غير مسبوقة. فالحساسات العادية قد لا تتمكن من التقاط إشارات ضعيفة، لكن الحساسات الكمومية قادرة على رصد أدق التغيرات في البيئة المحيطة، مثل الاختلافات الطفيفة في الوقت أو الجاذبية أو المجالات المغناطيسية.

ويعكف الباحثون حالياً على تطوير طرق جديدة لاستخدام هذه الحساسات الكمومية في قياس المجال المغناطيسي للأرض بدقة فائقة. فعبر الاستفادة من الظواهر الكمومية في الألماس، يمكن استشعار المجال المغناطيسي للأرض في الزمن الحقيقي، ومقارنة القياسات بخرائط مغناطيسية مسبقة، ما يوفر بديلًا قوياً لنظام GPS لا يتأثر بالتشويش، ويعمل حتى تحت الماء.


مستقبل الملاحة: مزيج بين الكم والتقليد

قد يشهد المستقبل دمج الملاحة الكمومية مع الأنظمة التقليدية، لتعزيز دقة تحديد المواقع عبر قياس المجالات المغناطيسية والجاذبية، وتحسين التوجيه عبر الجيروسكوبات الكمومية، وتوفير توقيت فائق الدقة عبر الساعات الذرية المصغرة.

ورغم الإمكانات الهائلة التي تحملها هذه التقنية، إلا أن تحويلها إلى واقع عملي لا يزال يواجه تحديات كبيرة. فهناك جهود حثيثة في الأوساط الأكاديمية والمختبرات الحكومية والصناعية لتطوير تقنيات ملاحة كمومية يمكن استخدامها على نطاق واسع.

تعمل بعض الشركات الناشئة واللاعبين الكبار في الصناعة على تطوير نماذج أولية لمقاييس تسارع وجيروسكوبات كمومية، لكنها لا تزال في مراحل الاختبار الأولية أو في تطبيقات متخصصة.

أبرز التحديات التي تعيق تبني الملاحة الكمومية على نطاق واسع تشمل:

  • تقليص حجم الحساسات الكمومية وجعلها أكثر كفاءة من حيث استهلاك الطاقة.
  • تحسين استقرار هذه الأجهزة خارج بيئات المختبرات.
  • دمجها مع أنظمة الملاحة التقليدية بحيث تكون عملية وسهلة الاستخدام.
  • تقليل التكلفة، إذ إن الأجهزة الكمومية اليوم باهظة الثمن ومعقدة، مما يجعل استخدامها في الحياة اليومية ما زال بعيد المنال.
ذو صلة

لكن في حال تجاوز هذه العقبات، فإن الملاحة الكمومية قد تُحدث تغييرات جوهرية في أنظمة التنقل العالمية. قد لا تحل محل GPS بين عشية وضحاها، لكنها قد تصبح جزءًا أساسياً من البنية التحتية التي تحافظ على حركة العالم بدقة غير مسبوقة.


ذو صلة