قبل 5 ملايين سنة… لحظة غيّرت خريطة العالم وصنعت البحر المتوسط

4 د
منذ خمسة ملايين عام، كان البحر الأبيض المتوسط حوضًا جافًا عالي الملوحة.
حدث الفيضان الزانكلي أعاد تشكيل المتوسط بتدفق ملايين الأمتار المكعبة من المياه.
تظهر الأدلة الجيولوجية تلالًا وصخورًا تحملها المياه العارمة.
بلغت سرعة الفيضان 115 كيلومترًا في الساعة وعمقه زاد عن أربعين مترًا.
أسفر الحدث عن تحول جيولوجي هائل، مشكلًا البحر الذي نعرفه اليوم.
تخيل معي للحظة أن البحر الأبيض المتوسط، ذلك البحر الرائع المحاط بثلاث قارات عريقة، كان في زمن بعيد مجرد حوض جاف، مُغلق، وعالي الملوحة. يبدو الأمر غريبًا جدًا أليس كذلك؟ لكن صدق أو لا تصدق، حدث هذا بالفعل منذ حوالي خمسة ملايين سنة.
حكاية لملايين السنين في عمر كوكبنا، كشفتها لنا دراسات حديثة أثارت اهتمام العلماء حول حدث مذهل يُعرف بالفيضان الزانكلي (Zanclean megaflood). هذا الحدث الاستثنائي يُصنف اليوم كأحد أكبر الفيضانات المعروفة في تاريخ الأرض. ويُقال إنه المسؤول الأول عن إعادة تشكيل شكل المتوسط كما نعرفه حاليًا.
كيف بدأ كل هذا؟
علينا أولًا العودة قليلاً إلى الوراء، قبل حوالي ستة ملايين سنة، بالتحديد عندما حدث أمر غريب عُرف بـ"أزمة ملوحة المسيني" (Messinian Salinity Crisis). في تلك الفترة، أدت تحركات الصفائح التكتونية إلى انغلاق المضيق البحري عند منطقة جبل طارق بين المحيط الأطلسي والبحر المتوسط، وكانت النتيجة أن البحر الأبيض المتوسط لم يعد يتلقى سوى القليل من المياه، ما أدى إلى تبخر معظمها مع مرور الوقت، تاركًا خلفه حوضًا شبه جاف ومغطى بطبقات سميكة من الأملاح، يصل سمك بعضها إلى عدة كيلومترات تحت سطح البحر الحالي.
من الخيال إلى الحقيقة: اكتشافات غير متوقعة
في عام 2009، ظهرت أول الدلائل العلمية الواضحة على حدوث هذا الفيضان المذهل، في سياق الأعمال التحضيرية لبناء نفق تحت الماء يربط بين قارتي أوروبا وإفريقيا في مضيق جبل طارق. أثناء جمعهم لهذه البيانات، عثر الباحثون على دلائل تشير بوضوح إلى وجود خندق بحري عميق في قاع المضيق، والذي يرجح بشدة أنه تشكل بسبب تيارات مائية عنيفة وسريعة الحركة.
لكن ما هي قوة هذا الفيضان الغامض؟ السواحل تحمل الجواب..
فريق دولي من العلماء بقيادة الجيولوجي المالطي آرون ميكالف، بدأ لاحقًا بتوسيع نطاق البحث، مركّزًا الدراسة على منطقة بالقرب من مضيق جبل طارق، وبالتحديد في منطقة "عتبة صقلية" (Sicily Sill). في جنوبي جزيرة صقلية، اكتشفت المجموعة مجموعة مدهشة من التلال والمنخفضات الجيولوجية المختلفة تمامًا عن التضاريس المحيطة. التشكيلات التي عثروا عليها تشبه إلى حد بعيد التضاريس التي تتشكل نتيجة لتدفقات مائية هائلة، تمامًا كتلك التي وجدت في ولاية واشنطن الأمريكية، والتي تشكلت نتيجة فيضانات ضخمة في نهاية العصر الجليدي الأخير.
ومن بين أكثر الدلائل إثارة، عثَر الفريق على كميات كبيرة من الصخور الكبيرة والصخور المفتتة مُلقاة بطريقة فوضوية فوق التلال، وهي آثار واضحة لقوة المياه التي التقطت هذه الصخور من المناطق الأقل ارتفاعًا، ثم حملتها لأعلى ووضعها في مكان غريب مثل أعالي التلال. وعندما فحص العلماء نوعية هذه الصخور، اكتشفوا أنها مطابقة للصخور الموجودة في المنخفضات، مما يعزز بقوة الفرضية القائلة إن هذه الصخور نُقلت بفعل تدفق مياه عارم.
الكمبيوتر يعيد رسم أحداث الماضي
لم يكتفِ الفريق بالاكتشافات الحقلية، وإنما قرروا توظيف تقنيات محاكاة الحاسوب لمحاولة فهم كيف حدث هذا الفيضان بالضبط. كشفت تلك المحاكاة نتائج صادمة حقًا؛ إذ أظهرت أن مياه الفيضان كانت تتحرك بسرعة هائلة وصلت إلى حوالي 115 كيلومترًا في الساعة، وبعمق مذهل يزيد عن أربعين مترًا. وتخيل معي، أن معدل التدفق، حسب هذه الدراسة، بلغ حوالي 13 مليون متر مكعب من المياه كل ثانية واحدة!
فإذا أردنا مقارنة هذا الأمر بشيء مألوف لنا اليوم، فلنتذكر أن نهر الأمازون - وهو أحد أعظم أنهار العالم حاليًا - يصرّف حوالي 200 ألف متر مكعب فقط في الثانية الواحدة؛ أي إنه بالمقارنة مع الفيضان الزانكلي يشبه نقطة صغيرة في محيط شاسع.
فيضان غيَّر وجه العالم إلى الأبد
بعد هذا الحدث التاريخي، تدفق ملايين الكميات من مياه الأطلسي إلى الحوض المتوسط، ما أدى إلى تشكيل ذلك البحر الذي نعرفه ونستمتع به اليوم. هذا الاكتشاف العلمي يوضّح مدى الديناميكية الجيولوجية التي يمرّ بها كوكبنا، وكيف يمكن لأحداثٍ طبيعية ضخمة أن تغيّر المعالم الطبيعية للأرض بهذه الطريقة الدراماتيكية وفي فترة زمنية بالغة القصر.
إذا فكرت مرة وأنت تستلقي بجانب شواطئ المتوسط الهادئة، فاعلم أنك تنظر إلى بحر يحمل في أعماقه ذكرى فيضان هائل شكل عالمنا قبل ملايين السنين. ربما، حينها ستنظر إلى المشهد بطريقة مختلفة تماماً.