مسألة لحظات: مسرّع ذرات يحوّل الرصاص إلى ذهب… ثم يُفنيه في لمح البصر

3 د
نجح العلماء في تحويل عنصر الرصاص إلى ذهب في مصادم الهادرونات الكبير.
استخدم فريق "أليس" التحويل النووي لإنتاج الذهب عن طريق تصادم ذرات الرصاص.
رغم إنتاج كميات صغيرة جدًا من الذهب، إلا أنه يثبت إمكانية التحويل عمليًا.
تعرض الذهب المنتج للتدمير الفوري بسبب قوة التصادمات الهائلة في التجربة.
تؤكد التجربة قدرات العلم الحديث وتعرض فرص لفهم سلوك النوى الذرية.
نجح العلماء في تحويل حلم قديم من أحلام البشرية إلى حقيقة علمية مذهلة، فقد تمكنوا بالفعل من تحويل عنصر الرصاص إلى ذهب! نعم، صدّق أو لا تصدّق ذلك، لكن هذه الطريقة ليست كما تخيّلها القدماء، وما إن تحققت حتى تبددت في لمح البصر.
وقعت هذه التجربة المثيرة في "مصادم الهادرونات الكبير" المعروف اختصاراً بـ"LHC"، والذي يقع بالقرب من جنيف، حيث أعلن فريق من العلماء من مشروع "أليس" (ALICE) أن تجاربهم أدت إلى إنتاج الذهب من خلال تصادم ذرات الرصاص بسرعة تصل إلى ما يقارب سرعة الضوء. ونُشرت هذه النتائج مؤخراً في دراسة علمية أكدتها مراكز أبحاث مهمة عالمياً.
تعتمد هذه العملية على مبدأ يُعرف باسم "التحويل النووي" أو "التحويل الذري"، فالعناصر الكيميائية المختلفة تمتلك عدداً محدداً من البروتونات في نواتها. فعلى سبيل المثال، تحتوي نواة الرصاص على 82 بروتوناً، بينما يحتوي الذهب على 79 بروتوناً فقط. ومن خلال التصادم العنيف بين نوى الرصاص في المصادم بسرعة قريبة جداً من سرعة الضوء – تحديداً 99,999993% من سرعتها – تمكن العلماء من اقتناص لحظة حرجة يتم فيها انتزاع ثلاثة بروتونات من نواة الرصاص، لتحويلها إلى ذهب.
ورغم هذا الإنجاز المثير، إلا أن كمية الذهب التي تم إنتاجها كانت صغيرة جداً؛ بلغت نحو 29 تريليون جزء من الجرام فقط، ولكن هذا الرقم الصغير يكفي ليبرهن على إمكانية حدوث التحويل النووي عملياً، وعلى تمكّن الباحثين من تكرار ما كان يُعتقد قديماً أنه ضرب من الخيال والسحر.
وهذا الإنجاز التاريخي لم يستمر طويلاً للأسف. فالذهب الذي تم إنتاجه في التجربة تعرض فوراً للتفتت والتدمير، بسبب قوة التصادمات الهائلة. لكن حتى هذا اللحظي القصير كان كافياً للرصد والتوثيق من خلال أجهزة كشف فائقة الحساسية من نوع "ZDC" أو "الكالوريمترات صفرية الزاوية"، وهي تقنيات حديثة مكّنت العلماء من رصد دقائق الأحداث التي تحصل في هذه التصادمات السريعة شديدة التعقيد.
وهنا يبرز الدور المهم لماركو فان ليووين، المتحدث باسم مشروع "أليس"، الذي أكد أهمية هذه الأدوات التي سمحت للعلماء برؤية عمليات التحويل النووي النادرة حتى في تصادمات ذرات الرصاص العنيفة. وهذا يفيد العلماء في أبحاثهم حول بنية المادة وسلوك النوى الذرية في ظروف عالية الطاقة.
وإذا ما عدنا للماضي قليلاً، سنجد أن حلم تحويل الرصاص إلى ذهب لم يكن جديداً؛ فقد تخيله القدماء من الكيميائيين تحت مسمى الخيمياء، وباستخدام حجر أسطوري عُرف بحجر الفلاسفة. وعلى الرغم من ارتباط تلك المحاولات بالأساطير والخرافات، يتبين لنا اليوم أن هذه الفكرة لم تكن مستحيلة تماماً من حيث المبدأ العلمي. فها هو العلم الحديث يثبت أنه بالإمكان تحقيق هذه الأمنية القديمة، وإن كانت بصورة علمية عملية ودون الحاجة لأي عناصر أسطورية.
وبعد هذا الحدث التاريخي، يتوقع العلماء أن تشهد السنوات القادمة ارتفاعاً ملحوظاً في كمية الذهب المنتجة في مثل هذه التجارب. فوفقاً لتصريحات أوليانا دميترييفا من فريق "أليس"، فإن كمية الذهب التي ينتجها المصادم في الوقت الراهن تصل إلى نحو 89 ألف نواة ذهب في كل ثانية تمرّ بها التجربة، وهي ضعف الكمية التي سُجّلت في الجولات التجريبية السابقة.
في النهاية، ربما لم ينجح علماء "أليس" في حل مشاكلنا الاقتصادية عبر تحويل الرصاص إلى الذهب بكميات تجارية، إلا أن تجربتهم الفريدة كشفت لنا عن قدرات العلم الطبيعي، ومنحتنا فرصة ثمينة لفهم عميق حول سلوك النواة الذرية وسط الظروف المتطرفة جداً. فما يبدو لنا أشبه بالسحر في الماضي أصبح اليوم حقيقة علمية تُظهر للعالم بوضوح كيف أن الطبيعة لا تزال تخبئ لنا مفاجآتٍ تتخطى حدود خيالنا، وتؤكد من جديد على أهمية الاستمرار في توسيع حدود معرفتنا العلمية.