ناسا تكتشف عن طريق الخطأ بكتيريا “خارقة” تقاوم المستحيل

3 د
اكتشف علماء ناسا بكتيريا جديدة في غرفة تعقيم بمختبر الدفع النفاث.
تمكن العلماء من عزل 215 سلالة بكتيرية، بينها 53 سلالة غير معروفة.
تستخدم الغرف النظيفة تقنيات تطهير قوية، ومع ذلك نجت بكتيريا مقاومة.
تفيد هذه الكائنات في تطوير مواد مقاومة وظروف الاستكشاف الفضائي.
يعيد الاكتشاف تقييم إجراءات ناسا لضمان نقاء البيئات الفضائية.
أراد علماء ناسا أن يُجهّزوا مركبة الفضاء "فينيكس"، لكنهم لم يتوقعوا قط أن يُهيئوا البيئة المثالية لاكتشاف غير مسبوق: بكتيريا جديدة تمتلك قدرة استثنائية على البقاء في أكثر الظروف قسوة، لدرجة قد تسمح لها بالعيش حتى على كوكب المريخ!
القصة بدأت في "مختبر الدفع النفاث" (JPL) التابع لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا، تحديداً في إحدى الغرف النظيفة، وهي أماكن مُعدة بعناية فائقة لمنع التلوث الميكروبي، من أجل ضمان سلامة أجهزة الفضاء وضمان عدم نقل أشكال الحياة الأرضية إلى الكواكب الأخرى. في عام 2007، قامت ناسا بعملية تجميع واختبار لمركبة "فينيكس" داخل هذه الغرفة، وفي أثناء مراقبة أجواء التجميع والتعقيم الصارم، تمكّن العلماء من عزل نحو 215 سلالة بكتيرية مختلفة من المكان نفسه.
ولكن المفاجأة الكبيرة لم تكن عدد هذه السلالات، بل حقيقة أن من بينها 53 سلالة تمثل 26 نوعاً جديداً تماماً لم يُعرف من قبل! هذا الاكتشاف المذهل، الذي نُشر تفصيلياً في مجلة Microbiom العلمية الشهيرة مؤخراً، أدى إلى هز القناعات السائدة حول قدرة الحياة الميكروبية على التكيف في بيئات نظيفة وصارمة التعقيم.
وهنا تأتي النقطة التي تثير اهتمام العلماء وتوقعاتهم المستقبلية: الغرف النظيفة مجهزة بتقنيات تحكم دقيقة في الحرارة والرطوبة ودورة الهواء، إلى جانب بروتوكولات تعقيم وتطهير شديدة تتضمن استخدام مواد كيميائية قاتلة وإشعاعات مكثفة للقضاء على الجراثيم. رغم كل هذه الإجراءات، تمكنت بكتيريا استثنائية من البقاء والتكيُّف والتطور لإيجاد حلول مناعية فريدة تمكّنها من النجاة والاستمرار.
تلك البكتيريا التي اكتُشفت تتمتع بصفات تشبه كثيراً الكائنات التي نُسميها "البيئات المتطرفة" أو "الإكستريموفيل"، التي تعيش في أقسى وأشد الظروف قسوةً على سطح الأرض. فهذه الكائنات أظهرت قدرات استثنائية على إصلاح الحمض النووي (DNA) بسرعة وكفاءة عالية، كما تمتلك سرعات متزايدة في عمليات الأيض، إضافة إلى قدرتها الملفتة على تحييد المواد الكيميائية الضارة.
هذا الاكتشاف يعني الكثير—ليس فقط لناسا، ولكن أيضاً للعديد من المجالات الحياتية الأخرى. طالبة الدكتوراه جينيا شولتز التي شاركت في الدراسة من جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست)، وصفت هذه الميكروبات بأنها "خبراء في فن البقاء"، وأشارت إلى إمكانية تطويرها في مجالات مختلفة، خاصة صناعة الدواء والغذاء وابتكار مواد جديدة ذات خصائص مقاومة، تَصلُح للاستخدام في ظروف قاسية قد تكون مستحيلة حالياً.
وبطبيعة الحال، تمتد تداعيات هذا الاكتشاف لتصل إلى صميم مهمات استكشاف الكواكب. فتخيّل أن ترسل ناسا مركبات بحثية للعثور على حياة على المريخ أو على أقمار المشتري أو زحل، فيُكتشف لاحقاً أن تلك البيئات قد سافرت إليها كائنات أرضية شديدة المقاومة بالخطأ، ما قد يعقد مهمة اكتشاف حياة أصلية خارج الأرض. هذه النقطة تُثير قضايا أخلاقية وعلمية ضخمة، تتطلب دراسة دقيقة للغاية من قبل الخبراء لضمان الحفاظ على نقاء البيئات الفضائية التي نزورها.
وفي ظل هذه النتائج المثيرة، فقد بدأت ناسا فعلياً بإعادة تقييم وتعديل إجراءات السلامة والتعقيم داخل غرفها النظيفة لتحسين معايير النظافة ومنع أي فرص تسلل للكائنات المقاومة إلى آلات الاستكشاف المستقبلية.
إذن، بينما حاول العلماء توفير أعلى درجات النظافة، دفعتهم الصدفة لاكتشاف كائنات حية غاية في التحدي والصلابة. هذه المفارقة العلمية تحمل في طياتها تساؤلات عميقة حول حدود المعرفة الحالية والكثير من الوعود بإحداث ثورة في مجالات متعددة. ولربما يكون من المفيد مستقبلاً التوضيح أكثر عندما نتحدث عن هذه الكائنات بدلاً من "خبراء في فن البقاء"، أن نصفها كـ "أبطال البقاء في ظروف مستحيلة"، لتقريب الصورة إلى ذهن المتلقي العربي. وإضافة جملة توضيحية تربط بين قوة هذه الكائنات والفرص الواعدة لابتكارات دوائية أو صناعية، ربما تجعل الموضوع أقرب للقارئ العربي وأكثر فائدةً في توضيح تداعياته العملية المباشرة.