الإنسان الجديد: كائن يتطور عبر المجتمع والتقنيات… لا الجينات

3 د
تشير الدراسة الحديثة إلى أن الثقافة والنظم الاجتماعية أصبحت المحرك الأكبر لتطور الإنسان، متجاوزةً الجينات.
الباحثان يؤكدان أن "الميراث الثقافي" يشمل الزراعة والعدالة والطب والتعليم، ويتطور بسرعة أكبر من الجينات.
التحوّل الثقافي قد يقود البشرية إلى بنية اجتماعية متكاملة شبيهة بالنمل أو النحل، حيث التعاون أساس النجاح.
الدراسة تثير تساؤلات حول العدالة الاجتماعية والتباينات بين المجتمعات نتيجة لهذا التحول الثقافي السريع.
التكنولوجيا والهندسة الوراثية قد تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل هوية الأجيال القادمة وتحكم التفاعل بين الثقافات.
لطالما ارتبط مفهوم التطوّر البشري بفكرة الانتقاء الطبيعي والتغيرات الجينية التي تمنح الكائنات صفات تساعدها على الصمود في وجه البيئة. لكن دراسة حديثة تفتح نافذة جديدة تماماً على فهمنا للتاريخ البشري، مؤكدة أن الثقافة والنظم الاجتماعية أصبحت المحرك الأكبر لتطور الإنسان، متجاوزة دور الجينات نفسها.
المثير أن هذا التحول لا يعني أن التغيرات البيولوجية توقفت، بل أنها أصبحت أبطأ من سرعة التغيرات الثقافية، الأمر الذي يعيد تعريف معنى أن تكون إنساناً في القرن الحادي والعشرين. وهذا يفتح باباً لفهم كيف يمكن للقوانين والمؤسسات والكفاءة التكنولوجية أن تشكل مستقبلنا أكثر من طبيعتنا الوراثية.
من الجينات إلى الثقافة: ثورة في مسار التطور
الباحثان تيموثي وورينغ وزاخاري وود من جامعة مين أوضحا في دراستهما أن الإنسان لم يعد يعتمد فقط على الميراث الجيني، بل على "الميراث الثقافي" الذي يتجسد في الزراعة، أنظمة العدالة، الطب الحديث، وحتى التعليم. هذه الأدوات، بحسبهما، تتطور بسرعة هائلة مقارنة مع الطفرات الجينية التي تحتاج آلاف السنين كي تترسخ. ويضربان مثلاً باستخدام النظارات الطبية أو العمليات القيصرية، حيث توفّر الثقافة حلولاً عملية كان يُفترض أن تحسمها الطبيعة عبر الانتقاء الجيني. وهذا يربط بين ابتكاراتنا الحالية وقدرتنا على البقاء في مواجهة تحديات الطبيعة.
نحو "كائن فائق" منظم جماعياً
الدراسة تذهب أبعد من ذلك، إذ ترى أن هذا التحول الثقافي قد يقود البشرية إلى مرحلة جديدة من "التنظيم الفائق"، شبيهة بما يحدث لدى النمل أو النحل، حيث تصبح المجموعة كوحدة متكاملة تحكمها أنظمة صحية وتعليمية واقتصادية وسياسية. بهذا المنطق، فإن ما يحافظ على بقائنا الآن ليس بالضرورة الصفات الفردية، بل استقرار البنية الاجتماعية التي نبنيها. وهذا يعني أن الاعتماد على التعاون والمؤسسات أصبح شرطاً أساسياً للبقاء، وهو ما يعيد صياغة العلاقة بين الفرد والجماعة.
تساؤلات أخلاقية ومصير مفتوح
لكن الطرح الجديد لا يخلو من إشكالات. فإذا كانت الثقافة هي القوة الدافعة للتطور، فما مصير التباينات بين المجتمعات؟ وهل سيؤدي تسارع الابتكار إلى تحقيق عدالة اجتماعية أوسع أم إلى تعميق الفجوات العالمية في الصحة والتعليم والتكنولوجيا؟ الباحثان نفسيهما يحذّران من التعامل مع هذا التحول باعتباره تقدماً بالضرورة، بل يصفانه بعملية حيادية قد تكون إيجابية أو سلبية بحسب اتجاهاتها. وهذا يعكس حاجة المجتمع إلى رؤية نقدية في توظيف الابتكارات بما يخدم المساواة والعدالة.
المستقبل: تطور تحكمه التكنولوجيا
المؤشرات الأولية تلمح إلى أن أدوات الهندسة الوراثية والتقنيات الطبية المساندة قد تصبح أكثر اندماجاً في هذه الحلقة، ما يخلق شكلاً جديداً من التفاعل بين الثقافة والبيولوجيا. فالتكنولوجيا لم تعد فقط وسيلة مساعدة، بل قد تتحول إلى العامل الحاسم في رسم هوية الأجيال القادمة. بذلك، فإن سؤال المستقبل لن يكون عن الطفرات الجينية التي قد نكتسبها، بل عن الابتكارات الثقافية والتكنولوجية التي ستعيد تشكيل معنى الإنسان. وهذا يضع أمامنا تحدياً حضارياً: كيف نضمن أن يقودنا هذا التطور نحو تعاون أوسع بدلاً من انقسام أعمق؟
ما يقوله الباحثون باختصار هو أننا ربما نودّع عصر التطور البطيء للجينات، وندخل عصراً جديداً تصوغ فيه الثقافة، المؤسسات، والعلوم ملامحنا. إنها لحظة فارقة تجعل من الضروري إعادة التفكير في مسؤوليتنا الجماعية: فمستقبل الإنسان، كما يبدو، مرهون أقل بما نحمله في حمضنا النووي وأكثر بما نبتكره معاً في حياتنا اليومية.