عالم مفقود تحت جليد القارة القطبية… اكتشاف بقايا نظام بيئي عمره 34 مليون سنة

3 د
اكتشف العلماء عالماً مدفوناً تحت جليد القارة القطبية الجنوبية بفضل تكنولوجيا حديثة.
كشف الرادار عن تضاريس من زمن غابره، مما يعزز فهمنا للتغيرات المناخية.
يمنحنا هذا الاكتشاف لمحات عن الحياة في القارة عندما كانت جزءًا من غوندوانا.
تساعد هذه البيانات في تحسين نماذج توقعات الغطاء الجليدي وتأثيرها على مستويات البحر.
تخيل أن هناك عالمًا اختفى مع الزمن لأكثر من 34 مليون سنة، مدفونًا تحت طبقة جليدية هائلة بسمك كيلومترين في شرق القارة القطبية الجنوبية، وتم اكتشافه مجددًا اليوم بفضل تكنولوجيا حديثة للغاية. إنه ليس خيالًا علميًا بل حقيقة كشفها العلماء مؤخرًا، وتحكي عن مناظر طبيعية خلابة كانت ذات يوم تجمع أنهارًا متدفقة وغابات شاسعة وجابت فيها الديناصورات يومًا ما.
استخدم باحثون من جامعة دورهام البريطانية تكنولوجيا الأقمار الصناعية الحديثة متمثلة في نظام (رادار سات RADARSAT) الكندي، الذي يكشف التغيرات الدقيقة في سطح الجليد، لتحديد شكل الأرض المدفونة. العملية تشبه إزالة الستار عن كبسولة زمنية منسية، كشفت تضاريسًا محفورة بفعل أنهار قديمة، تمتد على مساحة تقارب مساحة دولة ويلز، مجمدة تحت كيلومترين من الجليد بمنطقة شاسعة تصل إلى أكثر من 10 ملايين كيلومتر مربع.
وهذا الاكتشاف ليس مجرد تفاصيل جغرافية مثيرة فحسب، بل هو أيضًا نافذة على الزمن القديم. فقد أوضح قائد فريق البحث، ستيوارت جيميسون، أن هذه المناطق ظلت سليمة تمامًا طوال هذه الملايين من السنين بسبب الثلوج الهائلة، ما جعلها تُحفظ بهذا الشكل النادر تحت ضغط طبقات الجليد الثقيلة، مما يسلط الضوء على حقبة كانت فيها قارة أنتركتيكا مختلفة تمامًا عن ما نعرفها اليوم.
وهكذا، كانت القارة القطبية الجنوبية جزءًا من "غوندوانا"، وهي قارة عظمى قديمة جمعتها مع أفريقيا وأستراليا وأمريكا الجنوبية. في ذلك الحين، كانت تتدفق على سطحها الأنهار والغابات وتعيش فيها كائنات زاحفة ضخمة. لكن مع انخفاض درجات الحرارة منذ نحو 20 مليون سنة، أخذت الثلوج تتراكم والجليد يتسع على مدى الزمن، ليغطي القارة بأكملها ويلتهم تاريخها في أعماق طبقات الجليد الهائلة.
وما يثير اهتمام العلماء أكثر من هذا المشهد القديم هو القيمة العلمية الكبيرة التي يوفرها هذا الاكتشاف في فهم سلوكيات الجليد واستجابته للتغيرات المناخية. فباكتشاف الظروف التي شكّلت هذه الأرض منذ ملايين السنين، تتوافر لدى العلماء مؤشرات دقيقة حول كيفية تفاعلها في المستقبل مع ظاهرة الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية العالمية.
كذلك، فإن وجود هذه الشبكات النهرية القديمة المحفوظة بشكل تام يؤكد للعلماء أن المناظر الطبيعية الناشئة عن نحت الأنهار يمكن الحفاظ عليها بشكل مذهل تحت ظروف التغطية بالجليد. تطبيق العلماء لتكنولوجيا "رادار سات" والتصوير بالرنين عبر الراديو المسمى Radio-echo sounding (RES)، ساهم أيضًا في تأكيد تفاصيل دقيقة تتعلق بطريقة نحت هذا المشهد الطبيعي على مدار ملايين السنين قبل تكون الجليد.
ومن الجدير بالملاحظة أيضًا أن هذا البحث القيّم يساعد في تحسين نماذج تقدير مستقبل الغطاء الجليدي في شرق القارة القطبية الجنوبية، الذي يعد واحدًا من أكبر الخزانات الجليدية على الأرض. فخلال فترات الاحترار القديمة، أظهرت البيانات أن المناطق المنخفضة الأرتفاع مثل أحواض "أورورا" و"ويلكس" كانت عرضة للتقلص والتراجع مما أدى إلى ارتفاع مستوى سطح البحر بشكل كبير، وهذه معلومات مهمة للمجتمع العالمي في مواجهة التغير المناخي القادم.
ومع الاستمرار في تطوير الأدوات والتكنولوجيا المستعملة، هناك احتمال كبير باكتشاف المزيد من الأسرار عن عوالم قديمة أخرى مدفونة تحت الجليد. فكل معلومة صغيرة جديدة نجدها تقرّبنا من فهم التاريخ المخفي للأرض وتفتح مجالًا لوضع استراتيجيات ملائمة لكيفية التعامل مع واقعنا المناخي الجديد، كي نعيش بشكل أفضل وأكثر تناغمًا مع كوكبنا.
في النهاية، تمنحنا هذه الاكتشافات فرصة رائعة لاستكشاف عمق الزمن والتعرف على القوة المذهلة للطبيعة ومنظر كوكبنا المتغير دومًا. ربما يكون من المفيد في المستقبل تضييق نطاق البحث والتركيز على مناطق محددة تخبرنا قصة أوضح وأقوى، لنفهم بعمق كيف يستجيب كوكبنا لما نحدث فيه من تغيرات، وما يمكننا أن نفعله كي نحفظ توازنه الحيوي. فبين ثنايا هذه التضاريس القديمة دروس قيمة يمكن أن تساعدنا في تشكيل رؤيتنا المستقبلية على كوكب الأرض.