ملكة النمل تلد ذكور من نوع مختلف عن مستعمرتها… هل نعرف حقًا كيف تعمل الحياة؟

4 د
أدهشت ملكة النمل الأوروبي العلماء بإنتاج ذكور تحمل جينات نوع آخر بالكامل.
اكتشف الباحثون هجائن نمل تجمع بين "ميسور إيبيريكوس" و"ميسور ستراكتور" في أوروبا.
الملكة تتلاعب بالوراثة لإنتاج ذكور تختلط جيناتهم مع "ستراكتور".
التنوع الجيني يساهم في بقاء المستعمرة بتكافل فريد.
هذا الاكتشاف يثير التساؤلات حول حدود النوع البيولوجي.
في عالم الحشرات المدهش دائماً بما يخبئه من أسرار، أدهشتنا أخيراً ملكة النمل الأوروبي من نوع "ميسور إيبيريكوس" بسلوك يتحدى كل ما كنا نظنه من بديهيات في علم الأحياء. تخيل أن أنثى تنتج ذكوراً لا ينتمون فقط إلى نوعها، بل يحملون جينات نوع آخر بالكامل! هذا الاكتشاف، الذي وصفه العلماء بأنه "يكاد لا يُصدق"، يدعونا لإعادة التفكير في مفاهيم الأنواع، الوراثة، والتكاثر في الحشرات.
غموض النمل الهجين يحيّر الباحثين
بدأت حكاية هذا الاكتشاف حين لاحظ علماء الأحياء بقيادة جوناثان روميغييه من جامعة مونبلييه، وجود عاملات نمل هجين يحملن خليطاً وراثياً من نوعين مختلفين تماماً: "ميسور إيبيريكوس" و"ميسور ستراكتور"، في عدة مناطق من أوروبا الجنوبية.
الأغرب من ذلك هو أن تلك الهجائن وجدت حتى في مواقع لا يسكنها ذكور "ستراكتور" أصلاً. كيف يمكن ذلك؟ للعثور على الجواب، جمع الباحثون عدداً من أعشاش النمل وأحضروها للمختبر لمتابعة ما يحدث عن قرب. وهكذا كانت المفاجأة: من بطن ملكة واحدة خرج ذكران مختلفان بالكامل من ناحية الشكل والجينات، أحدهما يحمل خصائص نوع "إيبيريكوس" والآخر أقرب إلى "ستراكتور" حتى في تفاصيله الدقيقة.
وهنا يتضح كيف قادت النتائج الميدانية أسئلة العلماء نحو تجربة المختبر لتكشف عن سيناريو أكثر غرابة من كل التوقعات.
ظاهرة "الولادة الغريبة": ملكة تحمل، تلد وتربي ذكوراً من نوع آخر!
أطلق العلماء مصطلح "زينوباريتي" على هذه الظاهرة الفريدة، أي "الولادة الغريبة". إذ لم يسبق أن سُجل في الطبيعة أن إناث الكائنات تضع نسلًا كامل الجينات لنوع آخر. ما هي الحيلة هنا؟ المعروف أن معظم إناث النمل حين تتزاوج مع ذكورها وتضع بيوضها، يأتي الأبناء جميعاً من نوعها نفسه.
لكن لدى "ميسور إيبيريكوس"، يجري شيء مختلف تماماً: الملكة تستخدم حيلة جينية تسمى "أندروجينيسيس". ببساطة، حين تضع بيضة ذكر، تتخلص من مادتها الوراثية الأمومية، وتُستخدم فقط الحيوانات المنوية المخزَّنة من ذكور "ستراكتور" لإنتاج ذكر يحمل جيناتهم. المفارقة أن هذا الذكر وراثياً ليس من نوعها أصلاً، لكنه يحمل المتقدرات (الميتوكوندريا) ذات الأصول الأمومية، وهكذا تحصل المملكة على ذكور "ستراكتور" من دون الحاجة لتواجدهم في المنطقة!
والآن، بعد أن كشفنا آلية حيلة ملكة النمل في إنتاج ذكور غريبة، يبرز سؤال: لماذا تفعل هذا من الأساس؟
علاقة تكافل أم استغلال تطوري؟
يبدو أن للأمر أهمية استراتيجية في بقاء المستعمرة. إذا تزاوجت الملكة مع ذكور نوعها، تتحول جميع الأبناء إلى ملكات جديدات، مما يجعل المستعمرة مكتظة بالإناث دون وجود عمال أو ذكور. لكن حين تُدخل جينات "ستراكتور" في العملية، يُنتَج نسل هجين يتكفل بالأعمال؛ وهكذا تحافظ الملكة على توازن المستعمرة وتنوع أدوارها. الأغرب، عندما تعجز الملكة عن العثور على ذكور "ستراكتور" في محيطها، فهي قادرة على إنتاجهم بنفسها عبر الحيلة الجينية التي شرحناها! بل وتسمح لهم بالبقاء في العش ومشاركتها النسل، وهو ما دفع بعض العلماء لتسمية الأمر بالعلاقة التكافلية أو حتى "استئناس" ملكة النمل لذكور النوع الآخر لاستغلال قدرتهم على إنتاج أنواع بعينها.
ومن هنا نرى أن السلوك المعقد المرتبط بتطور المستعمرات يفتح أفقاً جديداً في فهم علاقات الأنواع والتفاعلات بين جيناتها وهرموناتها.
تحدٍ لمفهوم النوع وحدود الوراثة
هذه السلوكيات تطرح سؤالاً كبيراً حول معنى "النوع البيولوجي" وحدوده. إذا استطاعت ملكة واحدة أن تنتج ذرية لا تشاركها حتى نفس السلالة الوراثية، فكيف نحدد بدقة أين تبدأ وتنتهي حدود الأنواع؟ العلماء يقارنون هذه الظاهرة بتطور الميتوكوندريا (مراكز الطاقة في الخلايا)، التي كانت قبل بلايين السنين بكتيريا تعايشت مع خلايا حية حتى صارت جزءاً أساسياً من كيمياء الحياة الحديثة. في كل مرة نظن أن الطبيعة حسمت قواعدها بدقة، تظهر مفاجأة كهذه لتبرهن أن التطور "مخترع أشد براعة مما نظن" ولا يتوقف عن اختبار الاحتمالات الغريبة لجعل الكائنات أكثر قدرة على البقاء والتكيف.
باختصار، اكتشاف "زينوباريتي" في مملكة النمل يسلط الضوء على مرونة الحياة، ويذكّرنا أن الحشرات ما زالت تدهشنا بقصصها الخارقة والمتشابكة في عالم نجهل عنه الكثير. وما زال أمام العلم طريق طويل قبل أن نفهم تماماً حدود ما تقدر عليه الجينات، السكان، والسلوكيات في هذه الممالك الصغيرة.
هذه النقلة المفاهيمية في فهمنا للتكاثر الوراثي نشرت في مجلة Nature، وتفتح بسيولتها أبواباً عديدة أمام علماء الأحياء والمهتمين بتطور الكائنات الحية نحو أبحاث أعمق وأعجب.