جينات النمل: سر تتويج الملكات في عالم العجائب الصغير

4 د
تلعب الجينات دوراً مهماً في تتويج ملكات النمل بدلاً من الحجم فقط.
الظروف البيئية يمكن أن تغيّر حجم النمل، لكن الجينات تحدد صفات ملكية النمل.
الدراسة تبرز دور الجينات في تشكيل البنية الاجتماعية للنمل.
النمل يشبه "كائن خارق" حيث تكون لكل فرد وظيفة محددة تماماً مثل الخلايا.
الاختلاف الوراثي يحفظ التوازن في المستعمرة ويمنع الفوضى.
يخطر على البال عند الحديث عن النمل صورة التنظيم الفائق والانضباط الدقيق، لكن هل تساءلت يوماً عن سر اختيار ملكة النمل وسط هذا الزحام المنظم؟ في زوايا المستعمرة الصغيرة، ترسم الجينات قصة تتويج الملكات، لتكشف لنا الطبيعة نفسها عن حكمتها في انتقاء القادة.
منذ سنوات طويلة، اعتقد العلماء أن حجم النملة الأنثوية هو العامل الحاسم لاختيار الملكة. فالملكة عادة أكبر حجماً، بينما تبقى بقية الإناث العاملات أقل وزناً وأصغر قامة. هذا النظام المتدرج للمستعمرة مبنيّ على تقسيم دقيق للأدوار؛ فهناك العمال الحريصون الذين يطوفون في البحث عن الطعام وتنظيف الأعشاش، والجنديات اللاتي يحملن فكوكاً قوية للدفاع، وذكور بجناحين دورهم الوحيد التزاوج أثناء “رحلة التزاوج” السنوية المحيّرة حيث تترك الملكات العذارى عششهن وتلتقي الذكور في أعلى الهواء لبداية دورة حياة جديدة. بعد هذه المغامرة القصيرة، يبدأ تأسيس مستعمرة جديدة، بينما لا يعيش الذكور طويلاً بعد التزاوج.
الحلقة التي تربط النظام القديم بالجديد هنا هي البحث عن أسرار تطوّر الطبقات الاجتماعية في النمل؛ فكيف يُولد العامل أو الملكة؟ هذا السؤال كان محور دراسة نشرت مؤخراً في مجلة الأكاديمية الوطنية للعلوم، بقيادة البروفيسور دانييل كروناور من جامعة روكفلر، وفريقه الذي ركّز أنظاره على النمل “الغزاة الاستنساخي” ذي البيئة الوراثية المتحكم بها. أهمية هذا النوع في التجارب تكمن في سهولة التحكم في جيناته، ما يمنح الباحثين نافذة نقية لرؤية أثر الجينات مقابل البيئة.
بين الوراثة والبيئة: معركة غير متكافئة
غالباً ما كان تفسير العلماء لتفاوت حجم النمل يُعزى إلى الظروف البيئية مثل نوعية الغذاء أو الحرارة. اكتشف الباحثون أن الجينات لا تحدد فقط مقدار النمو، بل أيضاً موعد ظهور صفات الملكة. فعند تربية يرقات نمل متطابقة وراثياً في ظروف غذائية قاسية، تصبح غالبية النمل أصغر ولا تظهر عليها سِمات الملكة. ولكن إذا نجح بعضها في بلوغ حجم معيّن رغم قلة الطعام، تُبدي تلك النملات سلوكاً وشكلاً أقرب لسلوك الملكة، ما يكشف عن تأثير جيني خفي يكمن وراء الكواليس.
وانطلاقاً من هذه النتائج، درس العلماء مجموعتين وراثيتين من نفس النوع: سلالة أطلقوا عليها "M"، وأخرى باسم "A". لاحظوا أن نمل M ظل حجمه أصغر حتى تحت نفس الظروف، لكنه أظهر صفات أقرب للملكات في عمر أصغر، أي أن بعض الجينات تبدأ بتفعيل "شيفرة الملكة" في أجساد النمل مبكراً. ومن هنا، تتضح أن التغييرات البيئية تضيف طبقة من التنوع، لكنها لا تستطيع قلب المعادلة، فالعلاقة بين الحجم والدور الاجتماعي ترتبط بسلاسل جينية محددة.
تفتح هذه النتيجة الباب أمام تساؤلات شيقة حول تشكّل الطبقات في مستعمرة النمل، والعلاقة بين تركيب الجينات والسمات السلوكية والاجتماعية للفرد الواحد، مما يجعلنا نعيد النظر في كيفية تطور الكائنات الاجتماعية كالنمل.
مستعمرة النمل: كائن خارق بثوب جماعي
الأمر اللافت في هذا السياق أن العلماء يرون مستعمرة النمل كأنها كائن “فائق” أو “خارق”، إذ يشكّل كل فرد وحدة متخصصة، تماماً كما تعمل الخلايا في أنسجة الجسد البشري. وفي هذا النموذج الحيّ، قد تكون الملكة بمثابة “مركز القيادة” والجنديات بمثابة “خط الدفاع”، بينما تُشبه العاملات “خلايا الخدمة والإمداد”. وفهم لماذا وكيف تُكتب أدوار كل نملة في هذا "الجسد الجمعي" قد يمهد الطريق لفهم التعقيد في تطور الكائنات الاجتماعية عموماً.
ومن اللافت هنا كيف يؤثر الاختلاف الوراثي على الخطة التنظيمية بالكامل. إذ تبرز الجينات مسؤولة عن ضبط التوازن بين العاملات والجنديات والملكات، مما يمنع الفوضى ويحافظ على بقاء النظام. وهذا بعكس التصور السائد بأن ظروف البيئة فقط من تحدد مكانة الفرد؛ فكلمة الحسم غالباً بيد الجينات.
في الختام، توضح لنا هذه الدراسة روعة الترابط بين الوراثة والبيئة في عالم النمل المتشابك. وبينما تظل الظروف المحيطة عاملاً مؤثراً في بناء شخصية النملة، يبقى الحمض النووي هو المخرج الحقيقي وراء الكواليس، ينحت مصير الملكات منذ اللحظة الأولى. وإذا أردنا تعميق الفهم أكثر، ربما يجدر بنا في المقال القادم التركيز على كيفية تفاعل الجين مع البيئة عبر أمثلة أكثر من الأنواع المتنوعة للنمل، واستبدال كلمة “خارق” بمرادف مثل “هائل” أو “جماعي” لإضفاء تأثير أوضح، ولا بأس بإضافة جملة تربط تسلسل الأحداث من دراسة الجينات إلى ملاحظات العلماء المدهشة، ليزداد تماسك النصّ في رحلة استكشاف أسرار هذا الكوكب الصغير المدهش.