وهم المشاهدات: هل أرقام النجاح الرقمي مجرد خدعة؟

4 د
تعتبر المشاهدات على منصات التواصل الاجتماعي مقياساً وهمياً للنجاح والشهرة.
تستخدم منصات مثل تيك توك ويوتيوب تعريفات مختلف للمشاهدة، مما يساوي تمريراً سريعاً.
قد تحسب فيسبوك المشاهدة لتصفح سريع تلقائي بدون تفاعل حقيقي.
تحفز الأرقام المزيفة جاذبية المنصات وتزيد الإقبال والإعلانات.
لا ينبغي الاعتماد كثيراً على أرقام المشاهدات التي تُعرض للمستخدمين.
في عصر باتت فيه مواقع التواصل الاجتماعي تشكل جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، أصبح من الشائع أن نعتبر عدد المشاهدات هو المقياس الحقيقي لشهرة المحتوى أو نجاحه وانتشاره. فسواء على تيك توك، إنستاغرام، فيسبوك، يوتيوب أو حتى منصة إكس (تويتر سابقاً)، يكفي أن تلقي نظرة سريعة لترى كيف تحولت "المشاهدة" إلى العملة الأساسية التي تُستخدم لتقييم نجاح أي فيديو أو منشور، بل وأحياناً قياس نجاح صاحب المحتوى نفسه.
لكن، هل فكرت يوماً ما معنى المشاهدة فعلياً؟ ومتى تحسب منصةٌ ما أن محتواك تمت مشاهدته من متابع ما؟ في الواقع، إذا بحثنا قليلاً، سنكتشف حقيقة صادمة: عدد المشاهدات ليس أكثر من وهم، أو دعنا نقل، هو "رقم مضلل".
ربما كنت بالفعل تشك في هذه الفكرة، خاصة بعد أن أثار فيسبوك جدلاً واسعاً وصلت تداعياته إلى أروقة المحاكم؛ عندما كشفت تحقيقات استقلالية أن فيسبوك كان يتلاعب بأعداد مشاهدات الفيديوهات بهدف تشجيع منشئي المحتوى على استخدامه بدلاً من منصات أخرى. هذه القضية ليست فريدة من نوعها، فقد ناقش كثير من المحللين والخبراء التقنية هذا الأمر مطولاً، مؤكدين أن معظم إحصائيات المشاهدات مضللة للغاية.
فلنفهم الأمر بطريقة أبسط: ما هي "المشاهدة"؟ الجواب سيكون صادماً للبعض: كل منصة تقوم بتحديد مفهوم خاص بها لمعنى بل ولطريقة احتساب المشاهدات، في عملية تبدو عشوائية وغير مفهومة تماماً، أو بعبارة أدق، عملية تحددها المنصة حسب ما يخدم مصلحتها ونموها التسويقي.
دعنا نوضح بمثال عن تيك توك وإنستاغرام وحتى يوتيوب شورتس "Youtube Shorts": بالنسبة إلى هذه المنصات، بمجرد مرور الفيديو أمام عينيك - خلال أقل من الثانية في كثير من الأحيان - يُسجل لديك أن الفيديو تمت مشاهدته! لا يهم إن تابعت الفيديو أم لا، يكفي أنه مر سريعاً في رحلة مرورك على المحتوى أثناء التمرير. هذا يشبه أن تمر في شارع مكتظ بالمتاجر وتلمح شاشة تلفاز تعرض فيلماً لبضع ثوانٍ، ثم تخبر أصدقاءك بعدها أنك شاهدت الفيلم كاملاً!
الأمر يصبح أكثر غموضًا عند فيسبوك، حيث يخلط مفهوم "المشاهدة" بين المحتوى الذي يظهر على الشاشة تلقائياً (وأنت تتصفحه سريعاً دون أي تفاعل)، وبين المحتوى الذي تقرر أنت بالفعل تشغيله ومشاهدته لنهاية معينة. هذه الطريقة المعقدة جعلت إدارة فيسبوك نفسها تمنح المعلنين ومنشئي المحتوى خيارات إضافية وغير معلنة، مثل "مشاهدة لمدة ثلاث ثوان" و "مشاهدة لمدة دقيقة"، دون الكشف عن هذه الأرقام للعامة لأنها أقل وأكثر واقعية من الرقم المعلن للجمهور، لكن هل يمكن كسب المال منها؟
والقصة تتكرر كذلك عند منصة إكس أو تويتر سابقاً، إذ بمجرد أن ترى المحتوى في خلاصتك وأنت تمر سريعاً يُحسب ذلك تلقائياً كمشاهدة؛ هذا دون أي فعل منك، وهو ما حول هذه الممارسة إلى إحصائية بلا قيمة فعلية.
حتى نتفليكس، التي قد نعتبرها منصة محترفة تقدم محتوى طويل، لم تعد بريئة من حرب الأرقام هي الأخرى؛ فمنذ مدة غيرت الشركة طريقتها لعد المشاهدات بشكل كبير، وبعد أن كانت لا تعتبر المشاهدة حقيقية إلا إذا شاهد المستخدم حوالي 70% من الحلقة أو الفيلم، قررت أن تقلص ذلك إلى دقيقتين فقط! هل تعتقد أن دقيقتين من فيلم أو حلقة مسلسل تعتبر كافية لتقرر أنك "شاهدت" هذا المحتوى بالفعل؟
لكن، لماذا ترغب المنصات جميعها في تبني هذه الآلية الغامضة والمضللة؟ الإجابة ببساطة أن الرقم العالي في عداد المشاهدات يعزز جاذبية المنصة نفسها: مزيد من المشاهدات يعني مزيداً من المحتوى، ومزيداً من صناع المحتوى، وبالطبع مزيداً من الإعلانات والمداخيل المالية. إنه نظام يدور حول ذاته؛ فالمشاهدات العالية تجذب المعلنين، وتجذب المزيد من المستخدمين، ما يعيد الكرة من جديد.
كل الشركات والمنصات تدرك جيدًا أن مقاييسها ليست واقعية. لو كانت المشاهدات العامة التي يراها المستخدمون حقيقية وذات موثوقية، لكانت هي ذاتها التي تقدم للمعلنين وأصحاب الشركات التجارية، لكن في الحقيقة، المعلنون يحصلون على مقاييس أكثر تفصيلاً ودقة، كفترة المشاهدة الفعلية، ومدى التفاعل والتعليقات والإعجابات، بينما تتحفظ المنصات عن هذه المعلومات ولا تتيحها للجمهور العام.
هل ينبغي إذن أن نتوقف عن النظر في أعداد المشاهدات وأن نستبعدها من حساباتنا كلياً؟ ربما من الصعب حدوث ذلك في الواقع، لكن ما يمكننا فعله، على الأقل، هو إدراك أن الرقم الذي نراه أمامنا تحت عبارة "المشاهدات" لا يعبر حقيقةً عن شعبية المحتوى أو قيمته، بل هو مجرد رقم وهمي صُمم لجذب شخص آخر، ليس أنت أو أنا، بل معلنًا أو شركة ما.
لذا في المرة القادمة، عندما تجد نفسك تتباهى بعدد المشاهدات الكبير على فيديو أعجبك أو على محتواك الخاص، تذكر: إن هذا الرقم الذي تراه وتعتد به ليس بالضرورة حقيقيًا أو حتى قريبًا من الحقيقة، هو في الغالب مجرد خدعة رقمية أخرى في عالم لا تنتهي فيه الخدع والأوهام.