جيناتنا تكشف عن انقسام غامض في السلالة البشرية قبل 1.5 مليون سنة

3 د
كشفت دراسة جينية عن انقسام سكاني قديم بين مجموعتين بشريتين قبل 1,5 مليون عام، واندماجهما مجددًا قبل 300 ألف سنة.
ساهمت المجموعة التي مرّت بـ "عنق زجاجة وراثي" بـ 80% من جينات الإنسان الحديث، وكانت أصلًا للنياندرتال والدينيسوفان.
رغم مساهمة المجموعة الأخرى بنسبة 20% فقط من الجينات، إلا أن بعضها لعب دورًا مهمًا في تطور الدماغ البشري.
تعيد نتائج الدراسة النظر في النموذج الكلاسيكي لتطور الأنواع، وتكشف عن تاريخ بشري أكثر تعقيدًا مما كنا نعتقد.
لطالما افترض العلماء أن تطور البشر كان نتاج خط سلالي واحد وواضح، يتفرّع تدريجياً ليُنتج الإنسان الحديث كما نعرفه اليوم. لكن دراسة جديدة أجراها باحثون من جامعة كامبريدج البريطانية تُحدث زلزالًا في هذا التصوّر، إذ تكشف أن تاريخ البشر ليس مجرد شجرة تطورية بسيطة، بل شبكة معقدة من الانقسامات والاندماجات المتكررة.
وفقًا للدراسة المنشورة حديثًا في مجلة Nature Genetics، توصل فريق البحث إلى أن السلالة البشرية مرت بانقسام كبير قبل نحو 1.5 مليون عام، حيث انفصلت مجموعة من أسلاف البشر إلى مجموعتين عاشتا بمعزل عن بعضهما لمئات الآلاف من السنين، قبل أن تندمجا مجددًا قبل حوالي 300 ألف عام. والأكثر إدهاشًا، أن إحدى هاتين المجموعتين تركت بصمة وراثية أقوى بكثير في جينات الإنسان الحديث مقارنة بالأخرى.
يقول الباحث الرئيسي في الدراسة، عالم الوراثة تريفور كوزينز:
"سؤال 'من أين جئنا؟' لطالما كان واحدًا من أعظم الأسئلة التي شغلت البشرية، وما توصلنا إليه يُعيد صياغة فهمنا للتاريخ البشري بشكل عميق".
نظرية التطور ليست شجرة "نظيفة"
في علم الأحياء، يُستخدم مجاز "شجرة الحياة" لتفسير تطور الأنواع، حيث يُمثل الجذع السلف المشترك، وتتفرع الأغصان لتُعبّر عن انقسامات الأنواع. لكن هذه الصورة البسيطة لا تُجسّد حقيقة التعقيدات التناسلية التي تحدث داخل النوع الواحد، مثل الانفصالات المؤقتة والاندماجات اللاحقة، والتي لا ترقى دائمًا إلى مستوى الانقسام النوعي الكامل.
وهنا، يقول كوزينز:
"الاختلاط الوراثي والتزاوج بين المجموعات الفرعية لطالما لعب دورًا كبيرًا في ظهور أنواع جديدة، ليس فقط عند البشر، بل في المملكة الحيوانية بأسرها".
الباحثون البريطانيون، ومن بينهم عالما الوراثة آيلوِن سكالي وريتشارد دوربن، استخدموا نموذجًا إحصائيًا متطورًا لتحديد احتمالية ظهور جينات معينة من سلف مشترك دون تدخل عوامل انتقائية. وقد طُبّق هذا النموذج على بيانات جينية حقيقية من مشروع "ألف جينوم" و"مشروع تنوع الجينوم البشري".
انقسامٌ فاضح... واندماج لاحق
أظهرت النتائج وجود بنية سكانية عميقة الجذور، تشير إلى أن الإنسان العاقل (Homo sapiens) هو نتاج تلاقٍ بين مجموعتين بشريتين سابقتين انفصلتا عن بعضهما قبل 1.5 مليون عام، ثم عادتا للاختلاط قبل 300 ألف عام فقط. وتشير الدراسة إلى أن إحدى هاتين المجموعتين مرّت بـ "عنق زجاجة وراثي"، أي أنها تقلصت إلى عدد ضئيل من الأفراد قبل أن تنمو ببطء على مدى مليون عام.
يشرح سكالي:
"هذه المجموعة الصغيرة شكلت لاحقًا نحو 80% من التركيبة الجينية للإنسان الحديث، ويُرجّح أنها السلف المباشر للنياندرتال والدينيسوفان أيضًا".
في المقابل، ساهمت المجموعة الأخرى – والتي اندمجت لاحقًا مع المجموعة الأولى – بما لا يزيد عن 20% من الجينات التي نحملها اليوم. ورغم هذه النسبة الضئيلة، فإن بعض هذه الجينات، خصوصًا المرتبطة بوظائف الدماغ ومعالجة المعلومات العصبية، ربما كانت حاسمة في تطور القدرات الإدراكية للإنسان.
تشابك معقد يفوق التوقعات
تُشير هذه النتائج إلى أن جذورنا البشرية أكثر تشعبًا مما كنا نتصور، وأن مفهوم "السلالة الصافية" لم يعد صالحًا لفهم تطور الإنسان. فقد تداخلت الخطوط الوراثية مرارًا، كما أظهرت أبحاث سابقة بوجود نسب من الحمض النووي للنياندرتال في البشر غير الأفارقة اليوم، إلى جانب إشارات واضحة على التزاوج بين أسلاف البشر والدينيسوفان.
يعلّق كوزينز على ذلك بالقول:
"ما يتضح الآن هو أن فكرة تطور الأنواع ضمن خطوط متمايزة ومنفصلة هي فكرة مبسطة للغاية. الواقع أكثر فوضوية، بل وأكثر إثارة".
هذه الدراسة لا تعيد فقط كتابة تاريخنا الوراثي، بل تُسلط الضوء أيضًا على أهمية فهم العلاقات المعقدة بين المجموعات البشرية القديمة، والتي ساهمت مجتمعة في تشكيل الإنسان كما نعرفه اليوم.