مدينة ضائعة في قلب الأمازون: بتقنية الليدار المتقدمة، العلماء يكتشفون مستوطنات بشرية مدفونة تحت الغابات

4 د
أحدثت الاكتشافات الجديدة في الأمازون بفضل تقنية الليدار دهشة بين العلماء.
تم العثور على بقايا مدينة "لاميغو" التي يعود تاريخها للقرن الثامن عشر.
كشفت الأبحاث عن وجود مجتمعات متقدمة تتمتع بشبكات طرق وقنوات قديمة.
دعا قاطني المنطقة السلطات لحماية تاريخهم المهدد بالزوال.
في قلب غابات الأمازون الكثيفة، الغطاء النباتي الكثيف يُخفي أسرارًا كبيرة ظلّت مدفونة تحت الأشجار لعدة قرون. لكن الاكتشافات الجديدة، باستخدام تكنولوجيا أشعة الليزر المتقدمة المعروفة باسم "الليدار"، أثارت دهشة العلماء وأعادت كتابة التاريخ القديم، مودعةً مرحلة التخمينات والافتراضات القديمة.
حكاية مدينة مفقودة في الأدغال
بدأت القصة في منطقة كوستا ماركيس جنوب البرازيل، حيث انطلق فريق من المستكشفين والباحثين بقيادة عالم الآثار البرازيلي كارلوس زيمبل نيتو ليبحثوا عن ما تبقى من مدينة "لاميغو" الضائعة، التي أقامها البرتغاليون خلال القرن الثامن عشر. المستعمرة البرتغالية القديمة، التي تكوّنت حول قلعة ملكية كبرى تسمى "برينسيب دا بيرا"، اختفى معظمها تحت الطين والغطاء النباتي الثقيل، مُثيرة تساؤلات تاريخية كثيرة: أين ذهب سكان المدينة؟ وما شكل الحياة التي عاشوها هناك؟
لأكثر من مئة عام، بقيت هذه الأسئلة دون إجابة نهائية، حتى ظهرت تقنية اكتشاف جديدة غيَّرت كل شيء.
تقنية "الليدار": نافذةٌ خفية لرؤية الماضي
"الليدار" ببساطة هي اختصار لعبارة "التقاط الضوء وقياس المسافات"، وهي تقنية تعتمد على إرسال آلاف النبضات الضوئية من جهاز ليزر صغير مُثبّت في طائرة أو طائرة بدون طيار، ثم حساب الوقت الذي يستغرقه الضوء للعودة إلى المصدر بعد انعكاسه عن سطح الأرض. وعند إجراء هذه العملية مرارًا وبصورة مركزة، يمكن للعلماء إنتاج صور مفصلة للمناظر الطبيعية أسفل الغطاء النباتي الكثيف، وكأن الغابة الكثيفة تصبح شفافة.
لقد سمحت هذه التقنية الحديثة باتخاذ خطوات عملاقة في مجال علم الآثار، فاكتشفت مدنًا وأماكن ضائعة في مناطق غابات استوائية كثيفة مثل المكسيك وغواتيمالا وحتى آسيا. والآن جاء الدور على منطقة الأمازون الغامضة.
إعادة اكتشاف مدينة "لاميغو"
بعد القيام بعملية تصوير المنطقة باستخدام "الليدار"، وجد الباحثون بقايا شبكات طرق منظمة وقنوات مائية، وحتى أساسات مبانٍ حجرية وأنماط هندسية معقدة تشير إلى وجود مدينة حقيقية كانت نابضة بالحياة في الماضي. وأكدت النتائج خرائط مرسومة منذ أكثر من 250 عامًا.
يقول الباحث الرئيسي زيمبل نيتو بحماسة واضحة: "كنا نمتلك من الخرائط القديمة دلائل عن وجود هذه المدينة، لكن الآن تأكدنا بشكلٍ جازم، المدينة كانت موجودة بالفعل".
ليست مجرد مدينة: إعادة تشكيل التاريخ البشري بالأمازون
لكن ما تم اكتشافه لم يكن فقط أمتارًا من الأسوار الحجرية أو بضعة طرق قديمة فحسب. بين تلك الأنقاض وجدت قطع السيراميك التي تعود لأكثر من 1200 وحتى 2000 عام، مما يُلّمح لوجود مجتمعات محلية متقدمة عاشت واستقرت في الغابات قبل وصول البرتغاليين بفترة طويلة.
بذلك، أعادت تقنية "الليدار" فتح ملف نقاش هام بين العلماء: هل كانت منطقة الأمازون بالفعل أقل تقدمًا حضاريًا من مثيلاتها في الأمريكتين؟ فلطالما اعتقد المؤرخون طويلاً أن الأمازون كانت مجرد منطقة برية يستحيل قيام مجتمعات متطورة واسعة فيها بسبب تربتها ونباتاتها الكثيفة.
لكن الآن، الشواهد تبدو واضحة: كما حدث في بوليفيا وإكوادور، لفتت أنظار علماء الآثار بفضل تقنية الليدار، فقد تم اكتشاف المزيد من المراكز الحضرية، وأساليب هندسية مبهرة لإدارة المياه، بل ظهرت محاولات لبناء أهرامات ومباني حجرية وأسواق مركزية. وما تم اكتشافه في "لاميغو" ما هو إلا الحلقة الأحدث في سلسلة طويلة من الحضارات الأمازونية القديمة التي عاشت وازدهرت في هذه الغابة الأسطورية.
طريق المستقبل: الاكتشافات مستمرة رغم التحديات
بالرغم من حماسة العلماء وفرحتهم بالاكتشافات الجديدة، إلا أن المخاطر التي تُحيط بهذه المناطق من حرائق الغابات وعمليات تجريف الأراضي أو الزراعة المكثفة تُهدد ألا يبقى من الماضي إلا ما تكشفه الأجهزة والكاميرات الحديثة. في العام الماضي، اشتعلت نيران هائلة قرب المنطقة المكتشفة، وطالت حوالي 80% من الغابات المحيطة، مما دفع السكان المحليين—وهم أحفاد عبيد أفارقة تم جلبهم ليبنوا القلعة البرتغالية في الماضي البعيد—إلى مناشدة السلطات لحماية تاريخهم الذي يوشك على الاختفاء للمرة الثانية.
ومع كل تحدٍ جديد، تظهر هذه التقنية المتطورة مرة أخرى قيمتها الفريدة، وتعيد تشكيل معرفتنا ليس فقط بتاريخ الأمازون، بل بتاريخ البشرية في هذه الغابات التي ظلت عصية على الفهم لفترة طويلة، كما وصفها الرئيس الأمريكي السابق ثيودور روزفلت ذات يوم بأنها "أرض الاحتمالات المجهولة".
اليوم، ربما بفضل تكنولوجيا الليدار، صارت احتمالات أن نعرف الماضي العريق للأمازون أكبر من أي وقت مضى.