في أعمق أعماق الفضاء: رصد جسم مظلم بكتلة مليون شمس لا يصدر أي ضوء

3 د
اكتشف علماء الفلك جسم مظلم باستخدام تقنية "عدسة الجاذبية" وهو الأصغر حتى الآن.
يقع الجسم المظلم على بعد عشرة مليارات سنة ضوئية وكتلته تساوي مليون شمس.
استُخدمت شبكة تلسكوبات عالمية لرصد الجسم المظلم من خلال انحناء الضوء.
تم تطوير خوارزميات ومعالجة البيانات على أجهزة خارقة لإعادة بناء خريطة الكتلة.
الأبحاث قد تساهم في فهم المادة المظلمة وتطور المجرات بشكل أكبر.
في اكتشاف علمي نادر، أعلن فريق دولي من علماء الفلك عن رصد جسم مظلم يُعد الأقل كتلةً مما تم الكشف عنه حتى الآن باستخدام تقنية "عدسة الجاذبية"، تلك الظاهرة الكونية التي تُشوه ضوء الأجسام البعيدة بفعل قوة جذب جسم آخر غير مرئي يقع بيننا وبينها.
يشير العلماء إلى أن هذا الجسم المظلم، البعيد نحو عشرة مليارات سنة ضوئية عن الأرض، تبلغ كتلته نحو مليون مرة كتلة الشمس، أي أنه جسم هائل لكنه يختفي تمامًا عن نطاق الضوء المرئي. هذا الكشف يعطي دفعة هامة لنظرية "المادة المظلمة الباردة"، التي تفترض أن الكون مليء بتكتلات غير مرئية تشكل البنية العميقة للمجرات.
وهذا يقودنا إلى السؤال الطبيعي: كيف استطاع العلماء رصد ما لا يُرى؟
تلسكوبات عملاقة تكشف المستور
لتحقيق هذا الإنجاز، استخدم الباحثون شبكة من التلسكوبات الراديوية حول العالم، من بينها تلسكوب غرين بانك الأمريكي، ومصفوفة خطوط القاعدة الطويلة جدًا في أوروبا وأمريكا. هذه الشبكة المترابطة كوّنت فعليًا "تلسكوبًا بحجم الكوكب"، قادرًا على التقاط تغيرات طفيفة في ضوء المجرات البعيدة، وهي التغيرات التي تدل على وجود كتل مظلمة عابرة.
ومن خلال صور فائقة الدقة، لاحظ الفريق انحناء ضوء إحدى المجرات على شكل قوس ضوئي دقيق، وهو ما يشير إلى مرور كتلة غير مرئية بيننا وبينها. بذلك، تمكن العلماء من استنتاج وجود جسم "مظلم وبارد" لا يصدر أي إشعاع، لكنه يترك بصمة جاذبية واضحة.
وهنا ينتقل الحديث إلى أدوات التحليل ومعالجة البيانات التي ساعدت في تحويل هذا الإشعاع الضعيف إلى اكتشاف علمي.
خوارزميات وسوبركمبيوترات في خدمة الفضاء
نظرًا لضخامة البيانات وتعقيدها، طوّر الفريق خوارزميات خاصة ونماذج رقمية حوسبت على أجهزة خارقة. وقد أوضحت العالمة سيمونا فيغيتي من معهد ماكس بلانك للأبحاث الفلكية أن معالجة الإشارات بهذا المستوى من الدقة لم يسبق تنفيذها بهذه الطريقة من قبل. وعبر تقنيات "التصوير الجاذبي"، تمكن العلماء من إعادة بناء خريطة للتوزيع المادي لهذه الكتلة الخفية، كأنهم رسموا صورة للمادة المظلمة نفسها.
وهذا بدوره يربط بين الاكتشاف الجديد ونظرية تطور المجرات، إذ يرى العلماء أن مثل هذه التكتلات المظلمة تملأ كل مجرة، بما في ذلك مجرتنا درب التبانة، لكنها تبقى غير مرصودة إلا بآثارها الجاذبية.
نحو عصر جديد من فهم المادة المظلمة
الفريق العلمي، بقيادة ديفون باول وجون مكّين، يرى أن هذا الاكتشاف ليس سوى البداية. فمع استمرار عمليات الرصد وتحسين النماذج، قد يصبح بالإمكان تحديد المزيد من الأجسام المظلمة الصغيرة عبر مناطق مختلفة من السماء. وإذا تكررت هذه النتائج وأكدت وجود هذه الكتل الخالية تمامًا من النجوم، فسيتعين على بعض النظريات المنافسة حول طبيعة المادة المظلمة أن تُراجع حساباتها.
وفي ختام المشهد، يبدو أن رحلة الإنسان لفهم "المادة المظلمة"—التي تشكل قرابة 85% من كتلة الكون—دخلت مرحلة جديدة. فحتى وإن كان هذا الجسم البعيد لا يُرى ولا يضيء، فإن أثره الجاذبي أضاء للعالم العلمي طريقًا جديدًا نحو معرفة أكبر بأكثر أجزاء الكون غموضًا.