بكتيريا الأرض تبني مدن القمر: هل تصبح المستوطنات الفضائية حقيقة بمساعدة الكائنات الدقيقة؟

4 د
يستخدم الباحثون في المعهد الهندي للعلوم البكتيريا لبناء مستوطنات على سطح القمر.
تعمل البكتيريا كمادة رابطة لتحويل الغبار القمري إلى حجارة بناء قوية.
البكتيريا تساعد في إصلاح تشققات الحجارة وتستعيد قوتها الأصلية.
إرسال البكتيريا إلى الفضاء لاختبار فعاليتها في ظروف القمر المتغيرة هو الخطوة المقبلة.
نجاح التجربة يفتح الباب لبناء مستوطنات قمريّة مستدامة بتكلفة منخفضة.
تخيل معي للحظة أنك تعيش في مستوطنة على سطح القمر، وأن منزلك قد تم بناؤه من مواد محلية تتوفر حولك على سطح القمر نفسه، والأغرب أن هذه المواد يتم ترميمها وإصلاحها بنفسها تلقائيًا عند تشققها. يبدو ذلك الأمر وكأنه خيال علمي، أليس كذلك؟ إلا أنه يبدو أن العلماء قد بدأوا فعلًا في تحويل هذا الخيال إلى واقع ملموس.
تجربة هندية واعدة لاستخدام البكتيريا في العمران القمري
منذ فترة، يعمل باحثون من المعهد الهندي للعلوم (IISc) على تطوير تقنيات مبتكرة، تستخدم نوعًا معينًا من البكتيريا الأرضية يطلق عليها اسم "سبوروسارسينيا باستوري" (Sporosarcina pasteurii)، بهدف مساعدة الإنسان على تأسيس مستوطنة مستدامة على سطح القمر في المستقبل القريب.
وكما أفادت التقارير العلمية التي نشرها موقع Space.com، قام الفريق باختبار إمكانية استخدام هذه البكتيريا لتحويل الغبار القمري – المعروف بالريغوليث – إلى أحجار بناء متماسكة بإمكانها تحمل الظروف القاسية على سطح القمر. نُشرت نتائج هذا البحث الواعد في مجلة "فرونتيرز في تقنيات الفضاء" في 27 مارس الماضي، حيث كشفت النتائج أن البكتيريا يمكنها فعلًا العمل كمادة رابطة طبيعية تقوم بربط حبيبات الريغوليث القمرية ببعضها، لإنتاج قرميد قوي وملائم للبيئة القمرية.
لماذا الاعتماد على موارد القمر بدلًا من مواد من الأرض؟
ربما يتساءل البعض، لماذا كل هذا الجهد لاستخدام الموارد المتوفرة على القمر؟ السبب ببساطة هو التكلفة الهائلة التي تتطلبها عملية نقل مواد البناء من كوكب الأرض إلى سطح القمر. ولهذا السبب تحديدًا، عمل العلماء منذ فترة طويلة على تطوير تقنيات مبتكرة للاستفادة من الموارد المحلية بالقمر نفسه.
وقام الفريق الهندي في البداية باستخدام البكتيريا لإنتاج القرميد بطريقة بيولوجية، من خلال إنتاج مادة كربونات الكالسيوم الطبيعية التي تعمل كلاصق يربط جزيئات الغبار القمري. واستخدموا في هذه العملية مادة من نبات الغوار (الغوار غام)، والتي تساعد في تعزيز التماسك بين حبيبات الغبار.
تطوير تقنيات أكثر قوة وصلابة
بعد التجارب الأولى، تمكن العلماء من الوصول إلى تقنية أفضل وأكثر متانة، من خلال تسخين مزيج يحتوي على محاكي للريغوليث القمري مع مادة بولي فينيل الكحول في درجات حرارة عالية، في عملية تدعى "التلبيد". نتج عن ذلك قرميد أقوى وأكثر صلابة، ولكنه للأسف ظل معرضًا لخطر التشقق في ظروف القمر القاسية، حيث تتراوح درجات الحرارة بين 121 درجة مئوية نهارًا إلى -133 درجة مئوية ليلًا، إضافة إلى الإشعاعات الكونية المستمرة والنيازك المجهرية التي تضرب سطح القمر بشكل متكرر.
وأوضح الباحث الرئيسي كوشيك فيسواناثان من المعهد الهندي للعلوم قائلًا:
"في حال حدوث أي تصدعات مفاجئة، قد يؤدي ذلك إلى انهيار الهيكل بالكامل بسرعة؛ لذلك كان علينا التفكير في حل لترميم هذا الضرر تلقائيًا".
البكتيريا مرة أخرى.. الحل السحري لمشكلة الشقوق
عادت البكتيريا نفسها لتلعب دور المنقذ، حيث عمل العلماء على تطوير مادة خاصة، تتكون من البكتيريا بالإضافة إلى الغوار غام ومسحوق الريغوليث القمري، وتستخدم هذه المادة كسائل لاصق لإصلاح التشققات وإعادة توحيد القرميد المتضرر.
وبحسب الفريق، نجحت هذه الطريقة في استعادة من 28% إلى 54% من القوة الأصلية للقرميد المتشقق. يقول ألوك كومار، الباحث في الفريق نفسه، موضحًا: "في البداية لم نكن متأكدين من قدرة البكتيريا على الالتصاق بالقرميد الناتج عن التلبيد، ولكننا وجدنا أنها لم تقم فقط بسد الفجوات والتشققات، بل التصقت جيدًا بالبنية الأصلية أيضًا".
اختبار البكتيريا الفضائية.. المرحلة المقبلة للبحث
ورغم هذه النتائج الواعدة جدًا على الأرض، يبقى هناك سؤال محوري وهام: هل ستتصرف البكتيريا بنفس الطريقة عند تعرضها للفراغ الفضائي وانعدام الجاذبية على سطح القمر؟ هذه التساؤلات ما زالت مفتوحة أمام الباحثين، لذلك قررت الهند إرسال عينات من بكتيريا "سبوروسارسينيا باستوري" إلى الفضاء، ضمن مهمة الرواد المأهولة المقبلة "غاغانيان"، والمتوقع إطلاقها في وقت مبكر من عام 2026.
وفي حال أثبتت هذه التجربة الفضائية نجاح البكتيريا في العمل في ظروف القمر، سيكون ذلك نقلة حقيقية في مجال الهندسة والعمارة الفضائية، وربما يفتح المجال لبناء مستوطنات بشرية مستدامة على سطح القمر بأقل تكلفة ممكنة.
إذن، قد يكون المستقبل العامر والحياة البشرية على القمر أقرب مما كنا نتصور، كل ذلك بفضل تلك الكائنات الدقيقة التي لا تكاد تُرى بالعين المجردة. لننتظر ونشاهد كيف ستكون النتائج المقبلة في هذه المغامرة الفضائية المثيرة!