علم نفس السوق: كيف ينعكس الخوف والطمع على قرارات الجمهور؟
تلعب العواطف الجماعية دورًا بالغ الأهمية في أسواق المال، حيث تتحكم حالتا الخوف والطمع في الكثير من قرارات المستثمرين واتجاهات السوق الصاعدة والهابطة. على الرغم من أن الأسعار يفترض أن تعكس القيمة الحقيقية بناءً على التحليل المالي والاقتصادي، فإن سلوك الجمهور عمليًا يتأثر بعوامل نفسية تدفعه أحيانًا بعيدًا عن منطقية التقييم. وهنا يقدّم إطارُ «المالية السلوكية في التداول» تفسيرًا منهجيًا لكيفية تشكّل هذه الانحيازات العاطفية وتأثيرها في التسعير واتخاذ القرار، من المغالاة في الثقة إلى تجنّب الخسارة واتباع القطيع. فيما يلي نظرة على كيفية انعكاس الخوف والطمع – وهما أكثر انفعالات المستثمرين شيوعًا – على قرارات التداول وأحوال السوق عمومًا.
الخوف (Fear)
ينشأ الخوف في نفوس المستثمرين عادةً عند توقع أو حدوث أخبار سلبية أو غموض يكتنف المستقبل. ويتجسد أثره في السلوك الجماعي البيعي أو العزوف عن المخاطرة. 
فعندما تسود أجواء خوف في السوق، نرى كثيرًا من المستثمرين يسارعون إلى بيع الأصول الخطرة كالأسهم، والتوجه نحو ملاذات آمنة كالسندات الحكومية أو الذهب، ويفضّل بعضهم كذلك «تداول الذهب والفضة» كأدوات تحوّط شائعة في فترات عدم اليقين. يتسبب هذا السلوك في انخفاضات حادة للأسعار تفوق أحيانًا ما تبرره الأخبار ذاتها بسبب حالة الذعر العام. مثلًا، خلال الأزمات المالية أو عند انتشار أنباء اقتصادية سيئة جدًا، قد يتخذ الجمهور قرارات متسرعة بالتخارج بأي سعر لتفادي مزيد من الخسائر – وهذا البيع بدافع الخوف يضغط على السوق بشكل كبير.
تجلّت هذه الظاهرة بوضوح في انهيار الأسواق في مارس 2020 مع ذروة انتشار جائحة كورونا؛ حيث ساد هلع أدى إلى بيع عشوائي للأسهم وتسييل الاستثمارات على نطاق واسع، مما عمّق من الخسائر. لاحقًا، تبيّن أن من حافظ على هدوئه وتمسّك بمراكزه أو زادها استفاد من ارتداد الأسواق السريع. 
يبرز هذا المثال كيف يدفع الخوف كثيرين إلى البيع في القاع بخسارة، في حين أن الانضباط كان سيجنبهم تلك القرارات المكلفة، مع الإشارة إلى أن «تداول الذهب والفضة» ظلّ بالنسبة للبعض وسيلةً لإعادة توازن المخاطر دون اندفاعٍ عاطفي.من ناحية أخرى، يؤدي الخوف أيضًا إلى تفويت الفرص. ف
بعض المستثمرين يظلون متخوفين بعد أزمة ما، فيحجمون عن العودة إلى السوق رغم تحسن المعطيات – وبالتالي يفوتون مكاسب الارتفاع اللاحق. كما أن الخوف من الخسارة (Loss Aversion) يجعل المستثمر يتردد في بيع استثمار خاسر على أمل ارتداده، أو يتجنب الدخول في صفقة جديدة بسبب تجربة سابقة سيئة، مما قد لا يكون قرارًا سليمًا موضوعيًا. باختصار، حين يسيطر الخوف يصبح السلامة هي الهدف الأول للمستثمرين، حتى لو أدى ذلك للتخلي عن المكاسب المحتملة.
الطمع (Greed)
على النقيض، يظهر الطمع والجشع في أوقات الرواج والارتفاعات الكبيرة، أو عند انتشار قصص الربح السريع. في حالة الطمع يسود سلوك شرائي محموم مدفوع برغبة تحقيق أرباح أعلى وعدم تفويت الفرصة.
هذا ما يُعرف أحيانًا بظاهرة الخوف من فوات الربح FOMO – Fear of Missing Out، حيث يندفع المستثمرون غير عابئين بالمخاطر لركوب موجة الصعود الحالية قبل فواتها. تجلى الطمع بأوضح صوره خلال طفرة أسهم التكنولوجيا والعملات الرقمية؛ إذ رأينا مستثمرين يشترون أصولًا مرتفعة الأسعار أساسًا لمجرد توقعهم بأنها ستواصل الصعود بلا حدود.
مثل هذا الشراء بدافع الطمع يرفع الأسعار إلى مستويات غير مستدامة ويفوق القيمة العادلة، ممهّدًا أحيانًا لتكوّن فقاعات سعرية. وفي كثير من الحالات، يكون الجمهور العام آخر من يدخل السوق في نهاية موجة الصعود بدافع الطمع، لينتهي بهم الأمر عالقين عندما تنفجر الفقاعة ويهبط السعر. وكما قال المستثمر المعروف وارن بافيت: «كن خائفًا عندما يكون الآخرون طماعين، وطماعًا عندما يكون الآخرون خائفين» – في إشارة إلى أن أفضل الفرص الاستثمارية تظهر عادةً في لحظات الذعر، بينما أعلى المخاطر تكمن في لحظات النشوة والجشع الجماعي.
يتمظهر الطمع أيضًا في زيادة تحمل المخاطر دون حساب مدروس. فالمستثمر الواقع تحت تأثير الطمع قد يزيد حجم استثماراته أو يستخدم روافع مالية كبيرة طمعًا في مضاعفة الأرباح، متناسيًا أن هذا يرفع احتمالية الخسائر الفادحة كذلك. وقد يهمل تنويع محفظته فيضع نسبة مفرطة من رأس المال في أصل واحد “مضمون الربح” ظاهريًا.
في السوق الصاعدة، يشعر البعض أنهم لا يمكن أن يخسروا – وهي ثقة مفرطة خطيرة تؤدي في النهاية إلى قرارات استثمارية غير متزنة. وعندما تنعكس الدورة الاقتصادية أو تخيب النتائج توقعات هؤلاء، تكون الخسائر مؤلمة لأن مراكزهم كانت مبنية على تفاؤل غير واقعي.
التأثير الجماعي (Herding)
كل من الخوف والطمع معدٍ في أجواء السوق. يميل الناس بطبيعتهم إلى استقراء سلوك الآخرين؛ فإذا رأى المستثمرون موجات بيع واسعة فإن غريزة القطيع تدفعهم للبيع كذلك خشية أن يعرف الآخرون معلومات يجهلونها. والعكس صحيح في موجات الشراء الجماعي؛ إذ يخشى الفرد تفويت المكاسب إذا لم يفعل مثلهم. هكذا تتضخم تحركات السوق وتتسارع بسبب التغذية الراجعة العاطفية. فالكل يشتري لأن الجميع يشتري، أو يبيع لأن الآخرين يبيعون! وهذا ما يفسر كثيرًا من الفقاعات والانهيارات التي تتجاوز حدود المنطق الاقتصادي.
دورات السوق النفسية
غالبًا ما يمر السوق بدورات من التفاؤل المفرط ثم التشاؤم المفرط. تبدأ الدورة بـتفاؤل تجاه اتجاه جديد (قطاع صاعد أو تقنية جديدة)، يتحول إلى نشوة وطمع مع صعود الأسعار وتحقيق الأرباح. عند القمة يصل الطمع مداه ويظن الناس أن المكاسب سهلة ودائمة. ثم يحدث عامل ما (أخبار سلبية، تشديد نقدي) يبدّد الثقة، فتنعكس المعنويات بسرعة إلى قلق ثم خوف فذعر، مما يسبب بيعًا واسعًا وتراجعًا حادًا بالأسعار.
أخيرًا، بعد الهبوط الكبير يسود اليأس وتجنب المخاطرة... إلى أن تظهر معطيات إيجابية جديدة تعيد بعض الأمل وتبدأ دورة التفاؤل من جديد. هذه الدورة النفسية تكررت عبر تاريخ الأسواق، وتُظهر كيف يتناوب تأثير الخوف والطمع بمرور الزمن. المستثمر الحكيم يحاول أن يتعرف على مراحل الدورة ويضبط سلوكه عكسيًا – فيقاوم الطمع عند القمم ويقاوم الخوف عند القيعان.
إدارة المشاعر واتخاذ القرار الرشيد
يدرك المستثمرون الناجحون أن السيطرة على العواطف مفتاح أساسي للنجاح على المدى الطويل. الوعي بالانحيازات النفسية مهم جدًا؛ مثل معرفة ميلنا لتجنب الخسارة أكثر من السعي للربح (مما قد يجعلنا نبيع الرابح مبكرًا ونحتفظ بالخاسر طويلًا)، أو ميلنا لتأكيد آرائنا (فنبحث فقط عن معلومات تؤيد قراراتنا ونتجاهل ما سواها). 
لهذا يُنصح بوضع خطة استثمارية مكتوبة تشمل إستراتيجية الدخول والخروج ومعايير واضحة قبل تنفيذ أي صفقة، ثم الالتزام بها بغض النظر عن الضجيج المحيط. كذلك يفيد تنويع المحفظة بحيث تقل تأثيرات حدث سلبي على أصل واحد في إرباك كامل الوضع النفسي للمستثمر. كما أن تحديد مستويات إيقاف الخسارة وجني الربح سلفًا يساعد في جعل القرارات آلية إلى حد ما وتخفيف تحكم العاطفة.
وأخيرًا، الانضباط والصبر فضيلتان أساسيتان: فالأسواق تكافئ من يستطيع كبح جماح خوفه وطمعه والتحلي بالموضوعية. لذا قيل إن الاستثمار الناجح هو انتصار للعقلانية على العاطفة. إن فهم سيكولوجية السوق واتجاه مشاعر الجمهور يمنح المستثمر رؤية أشمل لتحركات الأسعار، لكن الأهم هو السيطرة على مشاعره الشخصية وسط كل ذلك الصخب، ليتمكن من اتخاذ قرارات متزنة تحقق مصالحه المالية بعيدًا عن تقلبات المزاج العام









