ذكاء اصطناعي

أدق قياس في التاريخ لعمر النيوترون يفتح آفاقاً جديدة في الفيزياء الأساسية

محمد كمال
محمد كمال

4 د

سجلت تجربة أمريكية أدق قياس لعمر النيوترون الحر في مختبر لوس ألاموس.

تعتمد التجربة على حبس النيوترونات فائقة البرودة بفخ مغناطو-جاذبي متطور.

تم تحديد متوسط عمر النيوترون الحر بأنه 877.

83 ثانية.

يهدف مشروع UCNτ+ لتحسين الدقة وتقليل هامش الخطأ في القياسات.

التجربة تساهم في فهم أعمق لتفاعلات القوة النووية الضعيفة وتطور الكون.

في عالم الفيزياء، القليل من الجسيمات يضاهي النيوترون أهمية وتأثيراً في فهم نسيج الكون. النيوترون، ذلك الجسيم المحايد كهربائياً الذي يسكن نواة الذرة، شهد مؤخراً إنجازاً علمياً لافتاً؛ إذ أعلنت مجموعة بحثية من مختبر لوس ألاموس الوطني عن تحقيق أدق قياس لعمر النيوترون الحر حتى الآن، بعد ترقب طويل من مجتمع الفيزياء الأساسية.

يحمل هذا الاكتشاف أهمية استثنائية، إذ إن معرفة الزمن الذي يستغرقه النيوترون الحر قبل أن يتحلل تلقائياً (ما يُعرف بـ"عمر النيوترون") ليست مجرد معلومة تقنية. بل إنها تزيدنا فهماً لتفاعلات القوة النووية الضعيفة، إحدى القوى الأساسية الأربع في الطبيعة، ويفتح الباب أمام استكشاف احتمالات فيزياء جديدة تتجاوز نموذج "الستاندرد" الذي يصف الجسيمات وقوى الطبيعة.

ما هو "عمر النيوترون الحر"... ولماذا يُلاحقه العلماء؟
لتقريب الصورة، النيوترون عند تحرره من نواة الذرة (بمعنى كونه "حراً") سرعان ما يتفتت إلى بروتون وإلكترون ونيوترينو. لكن المتوسط الزمني الذي يستغرقه قبل هذا التحلل الدقيق، يملك تأثيرات على حسابات نشأة العناصر في الكون المبكر وتطور النجوم. اختلاف القياسات السابقة للزمن الذي يعيشه النيوترون الحر كان يُربك العلماء ويدفع بعضهم للتساؤل عما إذا كان هناك أمر غير مكتشف في القوانين الفيزيائية.

ومن هنا جاء الاهتمام بتجربة "UCNτ" (تجربة حبس النيوترونات فائقة البرودة)، التي طوّرها فريق لوس ألاموس، لتمنحنا هذه الدقة غير المسبوقة في القياس.

الحديث عن التصميم المتطور لهذه التجربة يمهّد للغوص في تقنيات العدّ المحسنة وإزالة الشكوك المنهجية التي طالما أزعجت النتائج السابقة.

مغامرة "البانيو المغناطيسي": ابتكار في حبس وعداد النيوترونات
جسد فريق البحث فكرة مبتكرة عبر تصميم فخ مغناطو-جاذبي على هيئة "بانيو" أو حوض مقعّر، جدرانه مبطنة بالمعادن ومغطاة بمجالات مغناطيسية قوية كي تمنع النيوترونات فائقة البرودة من التسرب عند جدران الفخ، فيما تتكفل الجاذبية بمنعها من مغادرة الحوض من الأعلى.

لتتبّع النيوترونات وحساب ما تبقى منها بدقة بعد فترة زمنية محددة، استخدم الفريق جهاز عدّ يعتمد على مادة بورون-10 مطلية على حساس من كبريتيد الزنك، وعندما يصطدم النيوترون بالحساس يحدث تفاعل نووي يرسل ومضات ضوئية قابلة للعد مباشرة.

وبارتباط مباشر مع تصميم الفخ وتجهيزاته الحساسة، واصل العلماء تطوير أدوات المتابعة والتحكم في الظروف التجريبية بشكل سنوي، ما ساعد في خفض هامش الخطأ النظامي والتأكد من استمرارية النتائج المتوافقة عبر خمس سنوات متتالية من العمل الدؤوب.

دقة غير مسبوقة ومفاجأة في الأفق العلمي
ثمرة هذه الجهود تجسدت في التوصل إلى أن متوسط عمر النيوترون الحر هو 877.83 ثانية، مع هامش خطأ إحصائي لا يتعدى 0.3 ثانية فقط—أي ما يعادل نحو أربع عشرة دقيقة ونصف بدقة يُضاهي فيها الإنجاز أي تجربة سابقة في هذا المضمار. هذه الدقة تكرس التجربة كمرجعية عالمية وتسهم في نقاشات ما يُعرف بـ"لغز عمر النيوترون"، حيث لطالما بات هناك اختلافات بين نتائج تجارب "الزجاجة" وتجارب "الشعاع".

وانطلاقاً من هذه النتائج، يتضح أن التحسينات التقنية المستمرة، من رفع كثافة النيوترونات داخل "البانيو" المغناطيسي إلى تطوير كاشف ضوئي جديد أساسه مواد "بيروفسكايت" لتقليل تشويش الإشارات، تعزّز دقة التجربة وتجعلها مجهزة لكشف أسرار أعمق في المرات المقبلة.

نحو مستقبل أعمق: تجهيزات جديدة وأحلام يقظة في عالم النيوترونات
بالانتقال لهذه المرحلة المتقدمة من التجربة، يسعى الفريق لزيادة عدد النيوترونات المحبوسة داخل الحفرة المغناطيسية عبر إضافة "مصعد" ميكانيكي جديد ذكي من النحاس والتفلون—مادة فعّالة في عكس النيوترونات—بهدف إدخال أعداد أكبر خلال فترات زمنية قصيرة وتحسين الكثافة.

يرافق هذا التوجه تطوير حساسات ضوئية أعلى كفاءة وأسرع استجابة، وكل ذلك ضمن مشروع "UCNτ+" الذي يطمح لتقليص هامش الخطأ الكلي إلى 0.1 ثانية فقط. هذا الربط بين تحسين التصميمات وتطوير التقنيات يُعزز إمكانية رصد أي تفاصيل دقيقة أو مؤشرات لمفاجآت علمية قد تغيّر نظرتنا لبنية العالم دون أن نشعر.

ذو صلة

وفي هذا السياق، تبدو جهود ضبط معايير العد والإحصاء محوراً مركزياً، لأن أي خطأ طفيف قد يفتح الباب لتفسيرات خاطئة حول الفيزياء النووية، أو حتى يدفع نحو اكتشاف ظواهر لم تكن بالحسبان.

هكذا تُثبت تجربة لوس ألاموس أن رسم الحدود للتقدم العلمي فعلٌ لا يتوقف أبداً، خاصة عندما ندرك أن كل تحديث صغير في كلمة أو معادلة رياضية أو حتى حسّاس إلكتروني جديد، قد يُحدث فرقاً هائلاً في تفسيرنا لتاريخ العناصر وبدايات الكون. ربما يستحق الأمر هنا لو شددنا أكثر على المصطلحات الخاصة بنموذج "القوة الضعيفة" أو صقلنا العنوان ليقارب الإنجاز بروح أوسع، أو أضفنا جملة انتقال بارزة تُبرز مآلات تقنية "البانيو المغناطيسي" في النماذج المستقبلية. وكما يقول أهل المجال: كل ثانيةٍ في عمر النيوترون، تقرّبنا من سر النشأة خطوة إضافية.

ذو صلة