أسرار بانجيا… عندما كانت القارات مجرد قارة واحدة عملاقة

3 د
تشكّلت بانجيا قبل 320 مليون سنة نتيجة تصادم قارات أقدم مثل غوندوانا ولوراسيا.
كان بانجيا منصة للأحداث العظيمة التي غيرت تاريخ الجيولوجيا والحياة.
بدأ تفكك بانجيا قبل 195 مليون سنة خلال الجوراسي بأمريكا الشمالية وأفريقيا.
أدى تفتت بانجيا إلى تشكّل القارات بشكلها الحالي المتباعد.
قد تتشكل في المستقبل قارة جديدة تُسمى "أماسيا" أو "بانجيا ألتيما".
منذ أكثر من 300 مليون سنة، لم تكن الأرض كما نعرفها اليوم بسبع قارات متباعدة، بل كانت قارةً عملاقة واحدة تُعرف باسم **بانجيا**، تتوسطها البرّ وتحيط بها محيطات شاسعة مثل بانثالاسا. هذه الكتلة الكبرى شكّلت مسرحاً لأحداث هائلة غيرت مسار الجيولوجيا والحياة على كوكبنا.
في البداية، شكّلت دراسة بانجيا مدخلاً لفهم نظرية **الصفائح التكتونية**، التي تقول إن الغلاف الخارجي للأرض مكوَّن من ألواح صخرية ضخمة تتحرك فوق طبقة الوشاح. وهذا يربط بين كيفية تشكّل بانجيا قديماً وما يحدث اليوم من زلازل وبراكين وحركات قارّية مستمرة.
كيف وُلدت بانجيا؟
تشكلت بانجيا قبل نحو 320 مليون سنة نتيجة تصادم قارات أقدم مثل غوندوانا ولوراسيا. هذا الاندماج استغرق ملايين السنين وجعل اليابسة تتجمع في كتلة واحدة ضخمة. ويشير العلماء إلى أن القارات كانت قبل ذلك متناثرة في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية حتى دفعتها حركة الصفائح التكتونية لتلتقي وتتشابك، تماماً كما تُركّب قطع الأحجية. وهذا يربط تكوّن بانجيا بدورة أعمق تُعرف بـ"دورة القارات العظمى"، حيث تتكرر عملية التجمع والانقسام عبر تاريخ الأرض.
اللافت أن بانجيا لم تجمع كل اليابسة بالمعنى الحرفي، إذ بقيت بعض الكتَل الآسيوية الشرقية مثل الصين وتاريم منفصلة وراء محيطات أصغر. وهذا يوضح أن مصطلح "القارة العظمى" لا يعني بالضرورة الوحدة الكاملة بل الغلبة العددية للمسطحات الأرضية في كتلة واحدة.
دلائل من الصخور والأحفوريات
أول مَن لفت الأنظار إلى فكرة بانجيا هو العالِم ألفريد فيغنر في أوائل القرن العشرين. لاحظ أن سواحل إفريقيا وأمريكا الجنوبية تتكامل مثل "لسان في أخدود". ومع تحليلات لاحقة للصخور والطبقات الرسوبية تبيّن أن الفحم في بنسلفانيا الأمريكية يشبه نظائره في بولندا وألمانيا وبريطانيا، ما يؤكد أنها كانت كتلة واحدة. كذلك، وُجدت نباتات متطابقة، مثل السرخس القديم "غلوسوبتيريس"، في قارّات متباعدة اليوم. وهذا يربط بين الأدلة الجيولوجية والأحفورية وبين قصة القارة العظمى.
انقسام بانجيا وتبدّل المناخ
بعد أن استقرت لبضعة ملايين من السنين، بدأت بانجيا في التفكك قبل نحو 195 مليون سنة في مرحلة الجوراسي. الانقسام بدأ بفتح المحيط الأطلسي، ثم تفرقت غوندوانا إلى إفريقيا وأمريكا الجنوبية والهند وأستراليا وأنتاركتيكا. مع مرور الزمن، أدى التفتت إلى تشكّل القارات بشكلها الحالي. وهذا يربط بين الماضي العميق والواقع الحديث حيث تواصل الصفائح القارية الانزلاق ببطء بمعدل سنتيمترات كل عام.
وجود كتلة أرضية واحدة منح الأرض مناخاً شديد التباين. داخل القارة العملاقة كان الجو قاحلاً وجافاً، بينما قرب خط الاستواء انتشرت غابات استوائية رطبة. وقد انعكس ذلك على تنوّع الكائنات والأنظمة البيئية، وأثر في مسيرة التطور حتى ظهور الديناصورات الأولى.
المستقبل: قارة عظمى جديدة؟
العلماء اليوم يتوقعون أن ما حدث في الماضي سيتكرر. فبحسب نماذج المحاكاة، تتحرك أستراليا ببطء نحو آسيا، بينما يتصدّع شرق إفريقيا. بعض الدراسات تتحدث عن قارة مستقبلية تُسمى "أماسيا" ستتشكل في نصف الكرة الشمالي خلال 200 إلى 250 مليون سنة. أخرى تطرح سيناريو "بانجيا ألتيما"، حيث تعود القارات لتلتحم مرة أخرى في كتلة ضخمة ربما تجعل الأرض أكثر حرارة وأقل ملاءمة للحياة كما نعرفها. وهذا يربط الماضي بالحاضر والمستقبل، كأن دورة القارات الكبرى قدر جيولوجي محتوم.
الخلاصة
بانجيا لم تكن مجرد قارة اندثرت، بل هي قصة عن حيوية الأرض وصيرورة التغيير على مدى مئات ملايين السنين. من نشوء الجبال إلى انهيار المحيطات، ومن ازدهار الغابات إلى انقراض جماعي للأنواع، شكّلت بانجيا خلفيةً ملحمية للتاريخ الطبيعي. واليوم، بينما تستمر القارات في انزلاقها البطيء، يدرك العلماء أن في باطن الأرض ما يزال نبض خفي يصوغ مستقبل الكوكب ويهيئ الأرض لولادة قارة عظمى أخرى.