ذكاء اصطناعي

اختراق أعماق الدماغ: تقنية حديثة تلتقط أدق تفاصيله بلا أصباغ أو تعديل وراثي

محمد كمال
محمد كمال

4 د

نجح باحثو MIT في تطوير تقنية تصوير ثورية تكشف الدماغ بدون صبغات أو تعديلات وراثية.

تعتمد التقنية على أمواج صوتية وضوء ثلاثي الفوتونات لتمكين فحص الأنسجة بعمق أكبر.

يمكن للنظام الجديد دراسة جزيئات حيوية مهمة كـ NAD(P)H دون إضرار بالخلايا.

يساهم الاكتشاف في تحسين الجراحة العصبية وتشخيص وعلاج الأمراض العصبية المزمنة.

يجري الفريق الآن اختبار التقنية على أدمغة حية لتوسيع حدود تطبيقاتها الطبية.

هل لك أن تتخيل أن العلماء باتوا قادرين على رؤية أعماق الدماغ البشري، وبوضوح غير مسبوق، دون الحاجة لأي مواد كيميائية أو تدخلات جينية؟ اليوم، نجح فريق من باحثي معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) في تطوير تكنولوجيا تصوير ثورية تعتمد على استخدام الأشعة الضوئية لتحفيز موجات صوتية دقيقة، فتتيح لهم إجراء مسح للأنسجة الدماغية بعمق يصل إلى خمسة أضعاف الطرق التقليدية. هذا الاكتشاف، الذي يُعرف باسم المجهر الصوتي التراكبي متعدد الفوتونات، ربما يفتح الباب أمام حقبة جديدة في دراسة الأعصاب والجراحة الدماغية، ويوفر أملاً واعداً لإيجاد علاجات مبتكرة للأمراض العصبية المزمنة مثل الزهايمر والصرع.

المفتاح في هذه التكنولوجيا الثورية يكمن في إمكانية فحص تركيبة الدماغ دون الحاجة إلى استخدام صبغات أو تعديلات وراثية. لطالما كانت هذه المواد ضرورية لتحقيق الوضوح البصري في تقنيات التصوير السابقة، لكنها كانت تفرض بعض المحاذير على دقة النتائج وقد تسبب أضراراً محتملة للخلايا. الآن، وبفضل نظام التصوير الجديد، يمكن للعلماء تصوير جزيئات حيوية مهمة مثل NAD(P)H التي تلعب دوراً محورياً في عمليات التمثيل الغذائي للخلايا ونشاط الأعصاب، وحتى في أنسجة كثيفة وضخمة مثل عينات مخ إنسانية بحجم يفوق ميليمتر واحد أو أجزاء دماغ فأر بسماكة سبعمئة ميكرون. هذه القدرات تُمكن الباحثين من دراسة الفروق الدقيقة في سلوك الخلايا العصبية، وتوفر معلومات بالغة العمق حول نشاط الدماغ الحي.

وانطلاقاً من هذه النقطة، يصبح ضرورياً أن نستعرض الابتكار العلمي في طريقة عمل الجهاز الجديد. الفريق البحثي بقيادة ديفيد لي وتاتسويا أوساكي اعتمد تكنولوجيا إثارة ضوئية ثلاثية الفوتونات، حيث يتم إرسال نبضات ضوئية فائقة القصر وطويلة الطول الموجي، فتمر بعمق أكبر في الأنسجة. عند امتصاص الجزيئات الحية لهذه الفوتونات، تنتج تمدداً حرارياً ميكروسكوبي الحجم يولد بدوره موجات صوتية دقيقة للغاية، يتم التقاطها بواسطة ميكروفون فائق الحساسية يعمل بتقنية الأمواج فوق الصوتية. هكذا، تُترجم الإشارات الصوتية إلى صور دقيقة تُظهر التركيبة الخلوية والنشاط الجزيئي بوضوح مذهل، وهي العملية التي تُسمى التصوير الصوتي ثلاثي الفوتونات. يجمع النظام بين تحديد موقع الجزيئات الهيكلية الهامة ورصد النشاط العصبي الحيوي دون تغيير في خصائص الأنسجة الأصلية.

البحث لا يتوقف فقط عند هذا الحد، بل يتوسع ليجمع بين مجموعة من تقنيات التصوير فائقة الدقة في منصة واحدة متكاملة تُدعى "الضوء متعدد الفوتونات، الصوت للخارج". هذا التكامل يسمح بتحديد جزيئات مختلفة مثل GCaMP المتخصصة في متابعة نشاط الأعصاب بدقة، مع الاستفادة في الوقت ذاته من ما يسمى بالتصوير بتوليد التوافقيات الثالثة لرسم البنية الدقيقة للخلايا. الفكرة هنا تتمثل في تحقيق الفحص الهيكلي والجزيئي في جلسة واحدة، ما يعطي الباحثين القدرة على متابعة التغيرات في حالات مرضية معقدة كاضطرابات التمثيل الغذائي العصبية أو التشنجات أو متلازمة ريت عند الأطفال.

ومن هنا، ننتقل إلى الأبعاد التطبيقية والطبية المستقبلية للنظام؛ إذ يوفر إمكانية استخدامه أثناء العمليات الجراحية العصبية لرصد النشاط الدماغي الحي مباشرةً. هذا التطور قد يمنح الجراحين أداة فعّالة لمراقبة التغيرات لحظياً أثناء تدخلاتهم، ما يقلل بشكل كبير من معدلات المخاطر ومضاعفات العمليات. يدعم أهمية هذا النظام الجديد عدد من المؤسسات العلمية والطبية الكبرى مثل المعهد الوطني للصحة ومعهد بيكاور والمعاهد الطبية المتخصصة في علوم الأعصاب، ما يعكس حجم التوقعات المعقودة عليه لتحسين جودة التشخيص والعلاج مستقبلاً.

ذو صلة

المسار البحثي ما زال في بدايته، حيث يعتزم العلماء في الخطوة القادمة اختبار التقنية على أدمغة الكائنات الحية، ومتابعة إمكانية تثبيت مصدر الضوء والميكروفون على ذات الجهة من النسيج الحيوي؛ الأمر الذي من شأنه السماح بالتصوير في العمق الحقيقي على عينات دماغية حية يصل سمكها إلى ٢ ملم، وهو رقم كبير مقارنةً بحدود ما كان متاحاً سابقاً. الجدير بالذكر أن فريق البحث نجح سابقاً في الاستفادة من تصوير NAD(P)H في تسريع تعافي الجروح والتئامها، ومن المتوقع أن تمتد هذه التطبيقات الطموحة إلى معالجة أمراض الدماغ الحادة والاضطرابات العصبية المُزمنة.

في الختام، يبرز هذا الإنجاز كخطوة فائقة التقدم في عالم تصوير الدماغ والتقنية الطبية، إلا أن تحديات تفعيل التقنية سريرياً واختبارها على البشر ستبقى القائمة لفترة قادمة. ومع ذلك، يبدي العلماء تفاؤلاً كبيراً بأن تساهم هذه التكنولوجيا في إعادة رسم معالم فهمنا للدماغ، وفتح آفاق جديدة أمام علاج أمراض يصعب على الطب التقليدي التصدي لها حتى الآن. الوقت وحده كفيل بأن يكشف مدى الثورة التي أحدثها هذا الجهاز في مستقبل علوم الأعصاب والطب الحديث.

ذو صلة