اكتشاف علمي غير مسبوق يكشف أسرار العودة بالزمن إلى الوراء

4 د
حقق باحثون في النمسا اختراقًا علميًا بإعادة الزمن للوراء لجسيم ذري منفرد.
أظهر العلماء إمكانية التحكم في الزمن على المستوى الكمومي باستخدام "المفتاح الكمومي".
يساهم الإنجاز في تحسين الحوسبة الكمومية عبر الحفاظ على التراكب الكمومي وتقصي الأخطاء.
كشف الباحثون عن "بروتوكول إعادة الزمن الشامل" لتحريك الجسيمات بين الماضي والمستقبل.
التحكم بزمن الجسيمات قد يعزز دقة وموثوقية أنظمة الحوسبة الكمومية مستقبلاً.
في انتصار علمي غير مسبوق، تمكن باحثون في النمسا من إعادة الزمن إلى الوراء لجسيم منفرد داخل نظام كمومي، مما يؤسس لفهم جديد تمامًا لما يمكن أن تسمح به قوانين الفيزياء على المستوى الذري. هذا الإنجاز لا يعني أننا أمام أول تجربة لعودة البشر إلى عصر الديناصورات أو السفر الزمني كما نشاهد في الأفلام، لكنه يشير إلى أن التحكم باتجاه الزمن لم يعد أمرًا مستحيلًا بالكامل داخل المختبرات.
بداية القصة تكمن في سلوك الجسيمات تحت الذرية التي تتحرر من القوانين التقليدية للزمان والمكان وترضخ لقواعد ميكانيكا الكم الغامضة. العلماء في أكاديمية العلوم النمساوية نجحوا مؤخرًا في عكس سريان الزمن للفوتون، أي أصغر وحدة للضوء، دون رصد موضعه بشكل مباشر. استخدم الباحثون ما يُعرف بـ"المفتاح الكمومي" لبناء بيئة خاضعة للسيطرة الدقيقة يستطيعون ضمنها التحكم بمسيرة حركة الجسيمات، فجعلوا أحد الفوتونات يعود إلى حالته السابقة دون التدخل في موقعه تحديدًا. وهذا المسار يبرز الفارق الكبير بين العالم التقليدي وعالم الكم، فما يتعذر تحقيقه على الأجسام الكبيرة يصبح ممكنًا للجسيمات الدقيقة بفضل تلاعب العلماء بإحتمالاتها.
القوة الخارقة للكم: العالم بين الواحد والصفر
ولكي نعرف لماذا لهذا الإنجاز أهمية بالغة، علينا أن نستعرض بإيجاز جوهر الحوسبة الكمومية. على خلاف الحوسبة الكلاسيكية التي تعتمد على البتات الثنائية (كل بت له حالتان فقط: واحد أو صفر)، فإن الحوسبة الكمومية تستخدم "الكيوبت"، أي بت كمومي، يمكن أن يكون في حالة صفر أو واحد أو الاثنتين معًا بفضل ما يُسمى التراكب الكمومي. هذا المفهوم المستوحى من تجربة "قطة شرودنجر" الشهيرة يفتح نافذة لإحتمالات لانهائية ويسمح لأجهزة الحاسوب الكمومية بحل المسائل المعقدة بسرعة مذهلة مقارنة بالحواسيب التقليدية.
من هنا نعود لتأثير التجربة النمساوية: القدرة على إعادة جسيم إلى نقطة زمنية سابقة دون رصده تعني الحفاظ على التراكب الكمومي وعدم انهياره، وهو عنصر أساسي لتحقيق أخطاء أقل وفعالية أكبر في الحواسيب الكمومية القادمة. وهذا التطور يجعل من الممكن تصحيح المسارات الخاطئة (أو "التراجع عن الأخطاء") دون أن نضطر إلى التدخل أو فقد الحالة الكمومية.
تحكم بالمستقبل والماضي: بروتوكول إعادة الزمن في الكم
لا يتوقف الأمر عند إعادة الزمن فحسب، فقد كشف الباحثون عن ما أسموه "بروتوكول إعادة الزمن الشامل" الذي يسمح من الناحية النظرية ليس فقط بنقل الجسيمات إلى الماضي بل والانتقال بها أيضًا إلى المستقبل بسرعة، وذلك من خلال التلاعب باحتمالات جميع المسارات الممكنة للفوتون داخل النظام الكمومي. تخيل دمج جميع الاحتمالات المتفرعة لحركة جسيم ضوء في نتيجة نهائية واحدة مختارة سلفًا، أي أن تدفق الزمن لم يعد ثابتًا بل يتشكل حسب تدخل الإنسان في الأبعاد الكمومية.
المثير أيضًا، بحسب الفريق البحثي، أن هذا البروتوكول يمكن تطبيقه ليس فقط على الفوتونات بل على أنواع متعددة من الجسيمات، ولو أن التجارب خارج نطاق العالم المجهري ستبقى بالغة التعقيد لسنوات قادمة. وبذلك، إذا كان حلم السفر عبر الزمن بالنسبة للبشر بعيد المنال، فإننا نقترب تدريجيًا من إمكانية التلاعب الدقيق بالزمن على المستوى الذري، وهو ما يعده بعض العلماء خطوة أولى على طريق فتح أبواب السفر الزمني مستقبلًا.
آفاق أوسع: لماذا هذا التقدم مهم لنا جميعًا؟
توصّل الباحثون إلى أن هذا التحكم بزمن الجسيمات قد يُستخدم في تحسين دقة وموثوقية أنظمة الحوسبة الكمومية عبر تصحيح الأخطاء البرمجية أو تعزيز أمن المعلومات الكمومية، وربما يومًا ما نرى تطبيقاته خارج حدود المختبر في الحياة اليومية. فالمقصود ليس فقط تخيّل العودة بالزمن إلى الوراء وإنما تأسيس لبنية تكنولوجية جديدة تقود إلى شبكات أمان سيبرانية خارقة، أو أجهزة طبية تعالج الأعطاب قبل أن تحدث.
وبالانتقال من عالم الكم إلى الواقع السائد من حولنا، يظهر جليًا أن الطريق لا يزال طويلًا أمام ربط هذه الاكتشافات بتجاربنا البشرية المباشرة، وذلك بفعل الحدود الضخمة التي تفرضها الفيزياء الكلاسيكية على الأجسام كبيرة الحجم. ومع ذلك، يبقى هذا التطوّر شاهِدًا على تحوّل علمي قد يقلب قواعد اللعب يومًا ما، فإمكانية التراجع في الزمن على المستوى الجزيئي ستظل منطلقًا للخيال والثورة المستقبلية.
بهذا الإنجاز، قطع العلماء خطوة حقيقية نحو استكشاف حدود لا نهائية بين الزمان والمكان والواقع الافتراضي لعالم الذرة. وبين التخيل العلمي والحلم البشري، يبقى السؤال: إلى أي مدى ستسمح لنا قوانين الطبيعة بتجاوز الزمن يومًا ما؟ الأيام وحدها ستكشف الجواب، لكن المؤكد أننا نعيش فجر عصر تكنولوجي جديد لا يشبه أي شيء عرفناه من قبل.