البشر والشمبانزي يتشاركون 99% من الحمض النووي… فما الفرق إذن؟

4 د
يشارك البشر والشمبانزي نسبة تقارب 99% من الحمض النووي، إلا أن الفوارق إستراتيجية.
تكشف الأبحاث الحديثة أن الفوارق الجينية يمكن أن تصل إلى 5-10% عند حساب المناطق المعقدة.
تلعب المناطق غير المشفرة دوراً حيوياً في تحديد اختلافات الصفات بين البشر والشمبانزي.
الجينات المشتركة تعمل بطرق وإيقاعات مختلفة لكل نوع، مما يؤدي إلى نتائج تطورية ضخمة.
التقريب بين النسب الجينية يخفي تعقيدات أساسية تؤثر في تشكيل الحياة البشرية والشمبانزي.
لطالما سمعنا أن الإنسان والشمبانزي يتشاركان نحو 99% من حمضهم النووي، وكثيراً ما يُستخدم هذا الرقم لإبراز التقارب بيننا وبين القردة العظمى. لكن، هل هذا الرقم الدارج دقيق فعلاً؟ وماذا تعني هذه النسب حين نتحدث عن الجينات والتطور البشري؟
تبدو فكرة التشابه الجيني بين البشر والشمبانزي مغرية وبسيطة لجمهور غير المتخصصين؛ إذ توحي أن الفوارق بيننا ضئيلة للغاية، رغم الاختلافات الهائلة في المظهر والقدرات والسلوك. إلا أن الأبحاث الحديثة بدأت تكشف أن خلف هذه النسبة الأسرية البسيطة تكمن أسرار أكثر تعقيداً، تعيد رسم الصورة التي ننظر بها إلى تطورنا. في هذا المقال، سنغوص معاً في تفاصيل الجينات والبنية الوراثية لنفهم ما المقصود فعلاً بالتشابه بين الإنسان والشمبانزي، ولماذا قد يكون ذلك أقل بساطة مما نتصوره.
كشف أسرار النسبة الشهيرة 99%: أرقام ونطاقات
يركّز معظم العلماء عند مقارنة الجينوم، أو الشيفرة الوراثية الكاملة، لدى الإنسان "هوموسابينس" والشمبانزي "بان تروجلودايتس" على ترتيب القواعد الأربع الأساسية للحمض النووي: الأدينين والغوانين والسيتوسين والثايمين. تخيّل كل جينوم كسلسلة من ثلاثة مليارات حرف من هذه القواعد. عندما قارن العلماء في البداية تسلسل هذه الحروف، وجدوا أن حوالي 98.8% من التسلسلات المناظرة متطابقة، فظهر الرقم الشهير "99% تشابه".
لكن هذه الطريقة تقيس فقط تلك المناطق التي يمكن محاذاتها بسهولة بين الجينومين، وتغفل بقية المناطق الأكثر تعقيداً أو المختلفة جذرياً. لذلك، تقول أحدث الدراسات إن الفارق الحقيقي أكبر، لأن هناك أجزاءً كاملة توجد في الشمبانزي ولا نظير لها في الإنسان، أو العكس، إضافة إلى ما يسمى "الإدخالات والحذوفات" في الشيفرة الوراثية. ومع تطور أساليب التحليل الجيني، تبيّن للعلماء أن هذه المناطق غير المتطابقة تشكل حوالي 15 إلى 20% من الجينوم. وهكذا، عندما نأخذها في الحسبان، نجد أن الفارق بين الحمض النووي للإنسان والشمبانزي قد يصل إلى 5-10%.
هذا التوسّع في فهم الفروق الجينية يستكمل الصورة، فمن اللافت أيضاً أن الأبحاث الأحدث وجدت أن التشابه الجيني بين أفراد البشر أنفسهم يصل إلى 99.9%، بينما يمكن أن يتباين الحمض النووي بين الشمبانزي نفسه بنسبة تصل إلى 9%.
وبهذا ننتقل إلى سؤال: ما الذي يحدث فعلاً في هذه الفجوة غير المرئية بين الأرقام؟
الأجزاء الغامضة: المناطق غير المشفرة والتكنولوجيا الحديثة
وهنا تظهر أهمية ما يعرف بـ"المناطق غير المشفرة" أو "الحمض النووي غير المشفر"، وهي أجزاء من الجينوم لا تحمل تعليمات لبناء البروتينات، لكنها تتحكم متى وأين وكيف يتم التعبير عن الجينات المشفرة فعلاً. هذه المناطق أشبه بلوحات تحكم أو مفاتيح تشغيل تلعب دوراً محورياً في اختلاف صفات البشر عن الشمبانزي، رغم تشاركهم في اللبنات الأساسية. فحتى إذا كانت بروتيناتنا متشابهة كثيراً، إلا أن الفرق في توقيت التعبير الجيني أو كميته أو مكانه على مستوى الخلايا يُحدث اختلافات بالغة في الهيئة، والقدرات العقلية، والسلوك.
جدير بالذكر أن كثيراً من الاختلافات الكبيرة بين الإنسان والشمبانزي تنشأ نتيجة تغييرات طفيفة في هذه المناطق التنظيمية الدقيقة، حيث تقود هذه التعديلات الصغيرة إلى نتائج ضخمة في الصفات الخارجية أو الداخلية، مثل شكل الجمجمة أو حجم الدماغ أو حتى مدى كثافة الشعر على الجسم.
وبالتالي فإن التكنولوجيا الحديثة لتسلسل الجينوم ورقمنة الحمض النووي أظهرت أن المقارنات السابقة كانت تكتفي بما هو سهل المحاذاة، وتترك المناطق شديدة التعقيد جانباً. اليوم مع أدوات التحليل المتقدمة بات بمقدور الباحثين تقليل مساحة الغموض، ليصلوا إلى أن نسبة الفوارق الجينية قد تتجاوز 10% إذا أخذنا المناطق الشديدة التعقيد بالحسبان.
وهذا يوضح لنا لماذا ما يزال العلماء يؤكدون أن التشابه الجيني الكبير ليس بالضرورة مؤشراً على التشابه الكلي في السمات والسلوك والتطور.
فوارق صغيرة بنتائج ضخمة
استكمالاً لما سبق، تجب الإشارة إلى أن ما يميز الإنسان عن أقرب أقاربه من الناحية الوراثية ليس فقط كمية التشابه، ولكن اختلاف كيفية استثمار الجينات الموجودة. فالبشر والشمبانزي يمتلكون تقريباً ذات "عدة العمل الجينية"، لكن ورشة العمل البشرية تعمل بقواعد وإيقاعات مختلفة. يتم تفعيل بعض الجينات أو إغلاقها في مراحل معينة أثناء النمو أو في أعضاء معينة دون غيرها. هي اختلافات خفية كثيراً ما تحول النسبة 99% من تشابه مطمئن إلى تباين هائل في الواقع.
خلاصة القول: رغم أن الشمبانزي هو الأقرب لنا في شجرة الحياة، وتتشارك جينوماتنا نسباً مدهشة من التشابه، فإن الفوارق الصغيرة في الشيفرة الوراثية، لا سيما في المناطق التنظيمية، تصنع فرقاً عظيماً بين نوعين، من حيث الشكل والعقل والسلوك، على امتداد ملايين السنين من التطور. لذا من المهم ألا ننخدع بأرقام التشابه البسيطة، بل أن نفهم خلفياتها ودلالاتها، وأسلوبها في تكوين الفروق الجوهرية بين الإنسان وأقاربه في عالم الكائنات الحية.