ذكاء اصطناعي

البويضة تختار شريكها: كيف تعيد البيولوجيا كتابة قصة التكاثر وتنسف خرافة سباق الحيوانات المنوية

محمد كمال
محمد كمال

4 د

البيضة تختار الحيامن بناء على إشارات كيميائية دقيقة ووراثية.

الأسطورة القديمة عن "سباق الحيامن" تبددت بفضل الأبحاث الحديثة.

التكاثر البشري يفضل اختيار الأنسب وراثيًا لضمان فرص أعلى للنجاح.

خلقت الفهم الثقافي تناقضات في فهم عملية التخصيب بالتركيز على الذكور.

الطبيعة تُثبت قوة البيضة في تحديد التخصيب والوراثة البشرية.

تخيلوا المشهد الذي طالما رسمناه في مخيلتنا: ملايين الحيوانات المنوية تندفع كعدائين نحو خط النهاية، يتسابقون للوصول إلى بيضة المرأة، فيما الأخيرة تنتظر فوز أقواهم ليمنحها الحياة الجديدة. هذه الصورة السينمائية ليست سوى خرافة قديمة، يؤكد العلم الحديث أنها لا تصف ما يحدث حقيقة داخل أجسامنا.

مع صدور كتاب "الجنس الأقوى: ماذا تخبرنا العلوم عن قوة الجسد الأنثوي" للكاتبة المتخصصة في العلوم ستار فارتان، أتيحت لنا فرصة للغوص أعمق في أسرار التكاثر ودحض كثير من الأساطير حول البيولوجيا الأنثوية. يأخذنا البحث العلمي المختص في رحلة ممتعة لاكتشاف من فعلاً يملك القرار في الاختيار: البيضة أم الحيوان المنوي؟

لطالما اعتقدنا – وربما بطريقة فطرية تدفعها رسائل مجتمعية وتقاليد تاريخية – أن الذكر هو الطرف الفاعل والمبادر في قصة التخصيب. حتى أن الصور النمطية ترسخ فكرة الحيامن القوية، السريعة، التي تتزاحم للوصول للبيضة الساكنة المنتظرة. غير أن الأبحاث البنيوية والوراثية المتتالية خلال العقود الأخيرة قلبت الصورة رأساً على عقب. فقد بينت الأبحاث، كما توضح فارتان، أن للبيضة اليد العليا بالفعل: هي التي تصدر الإشارات الكيميائية، تختبر، تنتقي، وأحياناً ترفض دخول الحيامن إلى عالمها.

إن فهمنا الحالي للبنية التكاثرية للثدييات، حسب شرح البروفيسورة لينيت سيفرت، يُظهر اختلافًا جذريًا مع ما يحدث في عالم الأسماك أو الزواحف حيث يتم إنتاج أعداد هائلة من البويضات والحيوانات المنوية على مدى الحياة، ويُترك للبيئة الخارجية أمر انتقاء الأصلح. بينما في الثدييات – ومعها الإنسان – نجد اقتصادًا واضحًا في إنتاج البويضات، حيث تُحفظ داخل جسم الأنثى وتتعرض لنوع من "الاختبار الصارم"، لتجد نفسها أمام حيوان منوي واحد خلال دورة الإخصاب الشهرية.

وهنا يظهر الفارق الكبير في الاستراتيجية: الاستمرارية البشرية تفضل القلة المنتقاة، وتستثمر في انتقاء الأنسب وراثيًا وبدنيًا، ربما لضمان أفضل الفرص للطفل القادم في عالم مليء بالتحديات. إذًا، لماذا انتشرت ولا تزال تنتشر خرافة سباق الحيامن؟ الجواب يعود جزئيًا – وفق دراسة الباحثة إيميلي مارتن – لنزعة بعض المجتمعات لنقل التصورات الجنسانية إلى العلوم: صورة الذكر النشط والأنثى المنتظرة تُعكس بلا وعي على آليات التخصيب. ويظل الإعلام العلمي والكتب المدرسية يكررون – أحياناً حتى الآن – سيناريوهات قديمة لم تعد تصمد أمام الأدلة الحديثة.

فرصة البيضة للاختيار تستند إلى سلسلة من التفاعلات الكيميائية الدقيقة. الطبقة الخارجية للبيضة (المعروفة باسم "زونابيلوسيدا") تعمل كحارس أمين، تُجري اختبارات خاصة على الحيامن، ولا تسمح سوى للأكثر ملاءمة بالدخول والاندماج مع المادة الوراثية لديها. وقد أظهرت أبحاث حديثة جداً، مثل تلك التي أُجريت في جامعة ستوكهولم، أن البيضة يمكنها حتى إصدار إشارات جذب أو طرد بحسب التوافق الجيني بينها وبين الحيوانات المنوية المتقدمة ضمن سائل الجريبات. المثير أن هذا الانتقاء قد يفضل أحياناً حيوانًا منويًا لا ينتمي حتى لشريك الأنثى المعتاد، ما يضيف بعدًا جديدًا لمفهوم التكيف الطبيعي والوراثة.

يترابط هذا كله مع فكرة "المنافسة الحيوية" بين البويضات نفسها خلال الدورة الشهرية، حيث تدخل عدة بويضات في تنافس داخلي، لتنتصر واحدة وتكتمل رحلتها. وما إن تصل إشاراتها الكيميائية لإنذار الحيامن بالاستعداد، تبدأ مرحلة الجذب والاختبار الدقيق، إلى أن يتم اللقاء المنتقى. هذه الدورة الدقيقة تدحض كل فكرة عن السلبية أو الضعف الأنثوي، وتبرز وظيفة البيضة كمدير ماهر لمنصة الحياة البشرية.

ذو صلة

لخّصت الكاتبة ستار فارتان في كتابها هذه الرؤية الجديدة، ليس بهدف التقليل من قيمة أي جنس، بل لتجديد وعينا العلمي والاجتماعي حول قوى الطبيعة التي تشكلنا. ومن هنا يمكننا أن نتأمل، لو تم استبدال مصطلحات مثل "سباق الحيامن" بعبارات أدق مثل "اختيار البيضة للحيوان المنوي"، فإن ذلك قد يبني وعياً أعمق، وينقل التركيز نحو دقة العملية الحيوية وثقة الأنثى بجسدها. وربما لو أُضيفت جملة ربط بسيطة في هذا السياق بين وعي الأم ورعاية المولود، سيكتمل لدينا مشهد التكامل لا التنافس بين الجنسين في معجزة الحياة.

بهذا الفهم الجديد، نعيد النظر في أساطير الماضي؛ لتصبح البيضة ليست مفعولاً به، بل هي فعلاً صاحبة القرار والأثر. خلاصة القول: قوة المرأة البيولوجية ليست فقط في إنجاب الحياة، بل في حسن انتقاء جوهرها من اللحظة الأولى.

ذو صلة