ذكاء اصطناعي

الثور الراكع: تحفة فضية من حضارة منسية تكشف طقوسًا غامضة في جنوب غرب إيران

محمد كمال
محمد كمال

3 د

تمثال الثور الراكع من عيلام يجمع بين الإنسان والحيوان في تصميم فني مذهل.

الصناعة الفاخرة تظهر في تمثال فضي نقي مع حصى جيرية تحدث صوتاً رناناً.

يُعتقد أن التمثال قد استخدم في طقوس دينية أو كمُحفل رمزي لحماية المعابد.

يرمز الثور إلى القوة والخصوبة، بارتباطات أسطورية وثقافية في الحضارة الإيرانية القديمة.

التمثال يبقى لغزًا أثريًا، محفزًا للبحث عن تفاصيل الحضارات القديمة وطقوسها الخفية.

في قلب الحضارات القديمة، تبرز بين الحين والآخر اكتشافات أثرية تذهل الباحثين وتبعث الأسئلة من جديد عن سر العقائد والأساطير والممارسات التي اتبعها القدماء. واحد من أكثر هذه الاكتشافات غرابة هو تمثال الثور الراكع، وهو تمثال فضي صغير عثر عليه في بلاد عيلام القديمة جنوب غرب إيران، يجسد مزيجاً فريداً بين الإنسان والحيوان، وما يزال الغموض يكتنف وظيفته الحقيقية حتى اليوم.

حين تتأمل هذا التمثال، تجد ثوراً برأس ضخم وقرنين ملتويين، لكنه يجلس في هيئة بشرية، راكعاً بوقار ويحمل بين يديه إناء مزخرفاً مزوداً بفوهة. الصناعة المتقنة ظاهرٌ من نظرة أولى: طول التمثال 16 سنتيمتراً تقريباً، وصُنع من فضة نقية بنسبة تفوق 98%، ما يعكس مكانته وقيمته بين مقتنيات تلك الحقبة النادرة. وتشير التحليلات إلى أن صانعه عمد إلى إضافة حصى جيرية صغيرة داخل جوف التمثال، ويبدو أن الهدف كان إحداث صوت يهتز كجرس خافت عندما يُحرك أو يستخدم في فعل طقسي، علاوة على وجود ألياف مصدرها حيواني التصقت بالجسم المعدني، ما يرجح أن التمثال كان مغلفاً أو ملفوفاً ضمن طقوس دينية أو مراسم.


ارتباطات أسطورية وثقافية

ولأن التمثال قادم من قلب حضارة عريقة، فإن ارتباطاته تتعدى الجانب الشكلي إلى الرموز والأساطير. ففي عيلام، التي تمثل موطن الحضارة الإيرانية الأولى، ظهر عصر ما قبل العيلاميين أو “البروتو-عيلاميين” مع نهاية العصر النحاسي وبداية استخدام الفضة والنحاس في الفن والتحف. وعُرف عن هذه المجتمعات أنها ابتكرت سلندرات ختم أسطوانية صغيرة عليها نقوش لمشاهد تجمع بين الإنسان والحيوان، أو كائنات هجينة يُظن أنها أدت أدواراً روحية ورمزية على صلة بالخصوبة، الحياة، وقوى الطبيعة. وهذا يربط رمزية الثور في التمثال بمكانته في الأسطورة القديمة كرمز للقوة والحماية وخصوبة الأرض.


وظيفة غامضة ونظريات متداخلة

ومع تداخل هذه التفاصيل الرمزية، يبرز السؤال الأهم: ما وظيفة هذا التمثال الغامض؟ لا يوجد إجماع قاطع، لكن أحد الفرضيات المثيرة تبناها الأثريون وهي أن التمثال أدى دوراً طقسياً بحتاً، وربما كان “تمثال أساس” يُدفن عمداً تحت أسس المعابد الجديدة لتحديد أو تدشين مكانه المقدس، إذ اعتقد الأولون أن “دفن” رموز مثل الثور تحت المعبد يحول دون غضب الأرواح ويحمي البناء، ويجعل شرعية المكان لا يطعن فيها أحد. ووفق هذه الرؤية كان التمثال مدفوناً لينسى إلى الأبد، ليبقى فقط شاهداً على طقوس لم تعد معروفة تفاصيلها.

وفي سياق فك غموض التمثال، يتضح أن التفاصيل الصغيرة – مثل الحصى الرنانة والألياف الحيوانية – قد تشير أيضاً إلى استخدامه في مراسم يشارك فيها الصوت والملمس كلعب أدوار في الرقي والابتهال. وهناك من يرى فيه صلة بتجارب أوسع مارسها الإنسان القديم في ميزوبوتاميا وفارس، حيث شاعت كائنات تجمع بين ملامح البشر والحيوانات وتظهر كثيراً على جداريات القصور وتحف المعابد بوصفها حراساً ورسل آلهة.


التمثال بين الأسطورة والاكتشاف العلمي

هذه الحكاية الآسرة تستدعي إلى الأذهان حكايات “تماثيل الهانيوا” اليابانية أو أقراص “سابو” المصرية، وغيرها من آثار العصور الغابرة التي لاتزال تفاصيلها طي الكتمان. ويحفّز الثور الراكع – بمجرد تأمل ملامحه ووقاره – الخيال للكشف عن معتقدات وأدوات وعادات أسلافنا الإيرانيين، فربما كان جزءاً من احتفال تأسيسي أو نصبا رمزيا يذكر الناس بأن هناك ارتباطاً خفياً بين الحياة، الموت، والأبدية في موروثهم الروحي.

ذو صلة

خلاصة الحكاية

يظل تمثال الثور الراكع تحفة فنية وتاريخية نادرة، جمعت بين فن المعادن والتعبير الأسطوري والطقسي، وما زال محتفظاً بقدرته على إثارة الفضول. فرغم آلاف السنين، لم يبح التمثال بكل أسراره بعد، لكن وجوده يحفزنا على الغوص أبعد في تفاصيل حضارتنا الإنسانية المشتركة، حيث تمتزج القوة بالرمز، والأسطورة بالحقيقة، في إبداع كان ذات يوم جزءاً من طقوس لا نعرفها لكنها شكلت وجدان الإنسان وأحلامه عبر العصور.

ذو صلة