الحاسة السادسة الخفية: كيف تتواصل أمعاؤنا مع عقولنا برسائل فورية من البكتيريا؟

4 د
العلم يكشف "خط ساخن" بين الأمعاء والدماغ عبر بروتين فلاجيلّين سريع.
الخلايا العصبية في الأمعاء ترسل إشارات فورية للدماغ تشبه الرسائل النصية.
تكتشف الدراسة قدرة البكتيريا على التأثير الفوري في السلوك الإنساني، مثل الشعور بالشبع.
التجارب على الفئران تثبت دور المستقبلات العصبية في التحكم بالجوع.
فتح آفاق جديدة لاستغلال هذه الحاسة في معالجة مشكلات السمنة واضطرابات الأكل.
ذات يوم كنا نظن أن الحواس الخمس هي نافذتنا الوحيدة لفهم هذا العالم، فالعين ترى، والأذن تسمع، واللسان يذوق، والأنف يشم، والجلد يلمس. لكن العلم لا يملّ من مفاجأتنا، إذ تظهر لنا اكتشافات جديدة تغيّر رؤيتنا لأنفسنا. ففي دراسة علمية حديثة نُشرت في مجلة Nature، كشف باحثون من جامعة ديوك عن وجود تواصل أشبه بـ"خط ساخن" بين أمعائنا وأدمغتنا، بحيث تتعرف الأخيرة في الوقت الفعلي على ما يجري في بواطننا عن طريق بروتين قديم وينقل رسائل ميكروبية فائقة السرعة! قد يكون هذا ما يصفه العلماء بـ"الحاسة السادسة"، لكن بطعم وعطر بكتيري حقيقي.
فالعلاقة بين الأمعاء والدماغ ليست بالأمر الجديد، إذ طالما تحدث الباحثون عن المحور العصبي المعروف باسم "محور الأمعاء-الدماغ" الذي يربط الجهاز الهضمي بالجهاز العصبي عبر وجود ملايين الأعصاب في جدار الأمعاء. هذا المحور الحيوي، المدجج بإشارات متبادلة، يشارك بدور فاعل في عناصر الأيض، والمناعة، وحتى في خفايا المزاج ومؤشرات الاكتئاب. لكن حتى زمن قريب، اعتُبرت معظم التأثيرات بطيئة غير فورية، كاستجابة الجسم للالتهابات أو التغيرات الهرمونية. هنا يطل السؤال: هل تستطيع أمعاؤنا مخاطبة دماغنا بسرعة وحيوية على غرار ما تفعله العين أو الأذن؟
للرد على هذا التساؤل، قرر الباحثون الغوص أعمق نحو الجزيئات الدقيقة التي تسكن بطوننا. فقد ركّز الفريق العلمي على مكوّنات اسمها "النيروبودات"، وهي نوع فريد من الخلايا العصبية المنتشرة في بطانة القناة الهضمية وتستطيع تمرير رسائلها السريعة عبر العصب الحائر وصولاً للدماغ. إلى جانبها، دخل المشهد بروتين يُدعى "فلاجيلّين"، تفرزه بعض أنواع البكتيريا عند هضم الطعام، ليسافر عبر مستقبلاته الخاصة حتى يصل للنيروبودات التي تقذف بإشاراتها العصبية مباشرة إلى المخ بسرعة تشبه إرسال رسالة نصية! عند وصول الرسالة، يبادر الدماغ بسرعة إلى إدارة دفة الاستجابة، إما بتفعيل مناعة أو إحداث التهابات، أو حتى ضبط بعض السلوكيات مثل الشهية للطعام.
وهنا تبرز نقطة جوهرية في الدراسة الجديدة: الباحثون لاحظوا أن وجود بروتين فلاجيلّين في القولون كفيل بأن يحفّز النيروبودات على إخطار الدماغ بأن "المعدة ممتلئة" حتى لو لم تكن كذلك فعلاً. هذه هي الحاسة السادسة الممتدة من أحشاء الجسد، حيث للبكتيريا قدرة مباشرة وفورية على توجيه سلوك الإنسان، كالإحساس بالشبع، دون تأخير. ويبدو أن هذه الإشارات الفورية تفتح الباب أمام تطورات واسعة لفهم دور الميكروبيوم (مجتمع الجراثيم النافع في الأمعاء) في عاداتنا الغذائية وحتى تدخلاته في صحتنا النفسية.
ويكتمل المشهد عندما نطرق باب التجارب العلمية على الحيوانات. لم يكتفِ الباحثون بتخمين الآليات بل أجروا تجربة دقيقة على فئران تم إخضاعها للصوم، ثم حُقنت في قولونها جرعات ضئيلة من بروتين فلاجيلّين. بالرغم من جوعها، قللت الفئران المزودة بالمستقبلات العصبية استهلاكها للطعام، في حين لم يظهر هذا الأثر في فئران أخرى لا تملك تلك المستقبلات. هذا الإثبات العلمي القاطع لأهمية "الخط السريع" العصبي بين الأمعاء والدماغ يغير فهمنا لآلية الجوع والشبع، ويمنح الباحثين أملاً في تطوير طرق جديدة للتحكم في الشهية وربما التصدي لمشكلات السمنة أو اضطرابات الأكل مستقبلًا.
وهذا يربط بدوره بين تطلعات العلماء اليوم والرؤية المستقبلية حول إمكانية تسخير هذه الحاسة السادسة في مواجهة مشاكل صحية وسلوكية متزايدة. إذ يعتقد الخبراء أن استكشاف كيفيات تأثير أنماط التغذية على خريطة البكتيريا النافعة قد يقود إلى ثورة علاجية في ميادين البدانة واضطرابات الأكل وأمراض نفسية مثل القلق والاكتئاب، خصوصاً إذا تبيّن أن إدارتنا لهذا الحوار العصبي اليومي مع ميكروباتنا قد يشكل فارقًا حاسماً في صحتنا الشاملة.
في النهاية، تثبت لنا هذه الدراسة أن الجسم الإنساني أشبه بكوكب معقد، تسكنه حشود من الكائنات الدقيقة القادرة على مخاطبة جهازنا العصبي بلغة كيميائية سريعة وحاسمة. من يدري؟ قد تكون الحاسة السادسة هي تلك الرسائل الخفية التي تبعثها بكتيريا الأمعاء إلى الدماغ دون أن ندري. ولعل استبدال كلمة "خاملة" في توصيف الميكروبيوم بعبارة "نشيطة التأثير"، أو إضافة ربط واضح بين تجارب الفئران وإمكانات العلاج البشري، يمنحنا نصًا أكثر تماسكا وسلاسة. كل هذا يؤكد أن فهمنا لأحشائنا مفتوح على مصراعيه وأبعد بكثير من مجرد وظيفة هضمية، فما رأيك أن تنصت باهتمام أكثر لما يقوله بطنك لعقلك؟