المناخ يتحدث: هل يؤثر الطقس على طريقة كلامنا؟

4 د
تشير دراسة حديثة لتأثير المناخ على صوت اللغات الإنسانية.
تزيد الصونورة في اللغات الدافئة وتقِل في البيئات الباردة.
الرطوبة تساعد في نشر الأصوات اللينة أكثر من الهواء الجاف البارد.
الدراسة تقدم رؤية جديدة لروابط اللغة والانسان والبيئة منذ القديم.
هل سبق لك أن لاحظت اختلافًا غريبًا في أصوات اللغات عبر العالم؟ دراسة جديدة تقترح أن مناخ البلاد قد وضع بصمته على الطريقة التي نتحدث بها، وأن سكان المناطق الدافئة يميلون لامتلاك لغات أكثر صخبا وحيوية. فلنقترب معًا من تفاصيل هذا الاكتشاف المثير ونحلل كيف يتشابك صوت اللغة مع طبيعة الطقس والبيئة المحيطة.
تخيل الفرق في النطق بين أصوات شمال سيبيريا الباردة وبين أصوات سكان بابوا غينيا الجديدة، حيث الطقس الدافئ والرطب. في الشمال البعيد يتحدث الناس بكلمات سريعة مشبعة بحروف ساكنة حادة، في حين أن كلمات أهل الدفء تتدفق بحروف علة واضحة ونغمات مرتفعة. يبدو أن لهذه التباينات علاقاتها العميقة بالمناخ لا بالثقافة فقط، إذ توصل فريق من خبراء اللسانيات إلى أن موقع اللغة جغرافيا يؤثر بشكل مباشر على بنية الأصوات فيها. هذا الترابط بين خصائص الصوت ودرجات الحرارة ظاهرة يمكن ملاحظتها في اللغة اليومية، من نغمة الخطاب إلى سهولة فهم الكلام أثناء التواصل.
هذه النتيجة ليست مجرد ملاحظة عابرة، بل مدعومة بتحليل ضخم شمل أكثر من خمسة آلاف لغة من مختلف القارات والبيئات. وجد الباحثون أن اللغات التي نشأت في البلدان الحارة — خصوصًا حول خط الاستواء في مناطق مثل إفريقيا وأوقيانوسيا — تميل لاحتواء جمل وكلمات مشحونة بالحيوية والرخامة، أو ما يعرف في الدراسات الصوتية بمصطلح “الصونورة”. إذ تُهيمن فيها الحروف المتحركة (العِلَل) والنغمات المفتوحة، في حين تسود الحروف الساكنة المتلاصقة واللفظ المكتوم في البلدان الباردة مثل بعض لغات الساحل الشمالي الغربي لأمريكا وكندا.
العلم وراء الصوت والطقس
ما السبب الحقيقي وراء هذه الفوارق؟ بدايةً، يلعب الهواء البارد دورًا لا يمكن تجاهله في صعوبة إنتاج الأصوات الرنانة، فدرجات الحرارة المنخفضة، كما يوضح العلماء، تجعل الهواء أكثر جفافًا مما يسبب إجهادًا على الأحبال الصوتية ويحد من القدرة على إخراج الحروف المتحركة بوضوح. من زاوية أخرى، يمتص الهواء الدافئ في المناطق الحارة الترددات العالية بشكل أسرع، فيخفت صوت الحروف الساكنة، بينما تسمح رطوبة الجو بدفع الأصوات العميقة — كالحروف المتحركة — للوصول لمسافة أكبر دون فقدان وضوحها. هذا الربط بين الجو وخصائص الصوت ينعكس في تصميم اللغات نفسها: فالعوامل البيئية لا تشكل فقط الطريقة التي نصنع بها أصوات الكلمات، بل أيضًا وضوحها ومدى وصولها في المجتمعات التي تعيش على مساحات واسعة وتحتاج لنقل الكلمات لمسافة أبعد.
ومع هذا الشرح الفيزيائي، ننتقل إلى صلب الدراسة التي نُشرت مؤخرًا. مهمة الباحثين لم تقتصر على رصد الألفاظ، بل قاموا بتطوير "مؤشر الصونورة" مستندين إلى بيانات ضخمة جمعتها منصات مثل برنامج الحكم التلقائي للتشابه الصوتي. وعند إسقاط نتائج المؤشر على خرائط المناخ العالمية، ظهر الاتجاه بوضوح: درجات الحرارة المرتفعة تترافق بزيادة الصونورة، بينما تصل إلى أدناها كلما اتجهنا نحو الأقاليم الباردة أو الجافة.
رغم ذلك، ليس كل شيء بهذه البساطة دومًا. عندما تعمّق علماء اللغة في دراسة أسر بعينها مثل اللغات الهندوأوروبية أو البانتو، اختفت العلاقة الظاهرة بين المناخ وشخصية الصوت. إذ لبعض اللغات في مناطق دافئة مستويات منخفضة من الصونورة، كما أن تحليل عينات محدودة الكلمات من اللغات النادرة ربما يؤثر على دقة النتائج، مما يؤكد أن الترابط بين خصائص اللغة والمناخ مرتبط بعوامل زمنية وثقافية أعمق وأبطأ تغيرًا مما نتخيله.
تأثير المناخ على تاريخ اللغة وتطورها
وهنا يظهر سؤال أشد إثارة: هل يعني الاحترار المستمر للكوكب أن لغات البشرية ستصبح أكثر صخبا ورخامة مستقبلاً؟ بينما لا تحدث هذه التغيرات بسرعة، إلا أن العلماء يرون أن بنية أصوات اللغة تحمل في داخلها تاريخًا من التكيف البيئي بمرور القرون وربما آلاف السنين. فإذا انتقل شعب بلغته إلى مناخ جديد، تبقى للأجيال القادمة من الأصوات الأصلية آثار تقاوم الذوبان السريع في البيئة الحديثة.
ويرى الباحثون في ذلك نافذة غير متوقعة لاستكشاف الهجرة البشرية والمناخ القديم، إذ تمنحنا دراسة الصوتيات فرصة لقراءة رسائل مخفية من العصور السحيقة داخل الحروف المنطوقة. ففي السابق كان الشائع في علم اللسانيات هو قناعة باستقلال اللغة عن بيئتها، ولكن الأدلة الحديثة — ومنها نتائج هذه الدراسة الكبيرة — أعادت فتح النقاش عن دور الطقس والمحيط والطبيعة في تشكيل طريقة نطقنا للكلام.
وربطًا مع ما سبق، هنالك فرضية شهيرة باسم "فرضية التكيف الصوتي"، تؤكد أن الحيوانات بما فيها الإنسان، تميل لتطوير أصوات تلائم بيئاتها. نحن هنا نتشارك مع الطيور والثدييات في كيفية تصعيد الأصوات أو تسكينها تبعًا للغابة أو الصحراء أو قمم الجبال. ويظل الجدل العلمي قائمًا حول قوة تأثير المناخ مقارنة بالعوامل الثقافية والوظيفية الأخرى كطول الكلمات، استخدام العبارات المتكررة، وحتى الأساليب التي يتحدث بها الآباء مع أطفالهم، إذ للكل نصيب في رسم صورة اللغة النهائية.
في ختام هذه الجولة بين الحروف والمناخ، يتضح أن للهواء والماء والحرارة مكانة لا تقل أهمية عن التاريخ أو الهوية في هندسة اللغة البشرية. ربما يستحق الأمر في النسخ المستقبلية من الدراسات التركيز أكثر على تحليل الكلمات الشائعة بدلاً من العينات النادرة، أو حتى إعادة اختيار كلمات الربط لجعل النص أكثر ترابطًا، فكل تفاصيل صغيرة في اللغة تسهم فعلاً في قصتنا المشتركة عن كيف نتأثر... وكيف نتكلم.