المريخ ليس كوكبًا ميتًا… بل مقبرة لكواكب فاشلة!

4 د
كشفت بيانات مركبة "إنسايت" عن تكتلات غامضة داخل وشاح المريخ.
تشير الاكتشافات إلى بقايا كواكب أولية لم تكتمل منذ مليارات السنين.
يحتفظ المريخ بسجل جيولوجي ثابت بسبب انعدام حركة الصفائح التكتونية.
استخدام الزلازل ساعد العلماء في تحديد مواقع المواد المكثفة داخل الوشاح.
تمهد هذه الاكتشافات الطريق لدراسة أعمق لتاريخ النظام الشمسي المبكر.
هل كنت تتوقع أن يحمل المريخ في أعماقه أسرارًا تعود لمهد النظام الشمسي؟ هذا ما كشفته بيانات حديثة جمعتها مركبة "إنسايت" التابعة لوكالة ناسا، والتي رصدت تكتلات غامضة داخل وشاح الكوكب الأحمر، ربما تمثل بقايا كواكب أولية لم يكتب لها الاكتمال قبل مليارات السنين.
من هزات المريخ إلى أسراره الدفينة
بدأت قصة هذا الاكتشاف مع مهمة إنسايت، التي هبطت على سطح المريخ في 2018 وظلت تراقب الهزات الأرضية المعروفة باسم "زلازل المريخ" حتى عام 2022. هدف المهمة كان رسم صورة لما يوجد تحت قشرة المريخ الصلبة، وذلك بتحليل طريقة انتقال الموجات الاهتزازية عبر طبقاته الداخلية. ومن خلال تتبع هذه الذبذبات في الوشاح – الطبقة الحجرية التي تقع بين القشرة واللب – لاحظ العلماء وجود مناطق تنتقل خلالها الموجات ببطء أو تختلف كثافتها عن الصخور المحيطة. وهنا بدأ الحديث عن "كتل كثيفة" أو تكتلات ضخمة عمرها يقدر بأكثر من 4 مليارات عام.
ومن هذا المنطلق، بدا للعلماء أن هذه التكوينات الصخرية ربما تشكلت بعد اصطدام كويكبات ضخمة أو حتى "كواكب جنينية" بسطح المريخ في بدايات النظام الشمسي، ليبقى ما تبقى من هذه التصادمات سجينًا في أعماق الكوكب حتى اليوم. وبهذا، يرتبط الاكتشاف ارتباطًا وثيقًا بتاريخ هائل من الاصطدامات والتحولات الكونية.
وشاح المريخ: دليل على كوكب جامد منذ الأزل
ما يميز المريخ عن كوكبنا الأزرق هو أن قشرته ما تزال قطعة واحدة شبه ساكنة، خلافًا للأرض ذات الصفائح التكتونية النشطة والتي تتحرك وتعيد تشكيل نفسها باستمرار. بسبب هذا السكون الجيولوجي، لم تذُب أو تزحزح تلك التكتلات القديمة وظلت محفوظة بدقة داخل الوشاح المريخي، وتصل أبعاد أكبرها حتى 4 كيلومترات تقريبًا. ويرجح العلماء أن حرارة الوشاح هناك تصل إلى حوالي 1500 درجة مئوية، لكن رغم ذلك ظل محتواه الداخلي "كسجلّ جيولوجي مغلق"، الأمر الذي يجعل المريخ بمثابة كبسولة زمنية تحمل سجلًّا شاملاً للأحداث الأولى التي شكلت مجموعتنا الشمسية.
وهنا يمكن القول: ما يُمحى من تاريخ الأرض بسبب الحركات الداخلية المتكررة، يُحفظ في المريخ وكأنه لمحة من الماضي السحيق للنظام الشمسي، ليمنح الباحثين فرصة فريدة لدراسة أسرار تكوّن الكواكب.
كيف كشف العلماء عن هذه التكتلات؟
عندما حلل الفريق البحثي بيانات أكثر من 1300 زلزال مريخي سجلتها إنسايت، لاحظوا أن بعض الموجات الزلزالية تعبر مناطق الوشاح بسرعة مختلفة عن غيرها، مما يشير إلى وجود مواد ذات كثافة أعلى من الصخور المحيطة. وباستخدام النمذجة الجيولوجية وتحليل الإشارات، تمكنوا من تحديد أماكن عشرات التكتلات العميقة والمكثفة. وبالنظر إلى حجمها وتوزيعها، افترضوا أن هذه "الكائنات المندفنة" لم تُخلق في المريخ أصلاً، بل جاءت من أجسام ارتطمت به في مرحلة التكوين الأولى للنظام الشمسي وأندمجت داخله.
ومن هنا، يتضح أن استخدام الزلازل كأداة علمية يسمح بتشخيص البنى الداخلية للكواكب – تمامًا كما نستخدم الأشعة السينية لرؤية ما بداخل الإنسان – فهكذا جذبت موجات "مارسكوِيك" أنظار العلماء للأسرار الغامضة في عمق المريخ.
كل هذا يبين أيضًا كيف تكشف التقنيات الحديثة الستار عن حقائق مذهلة، فحتى العام الماضي أدى تحليل بيانات الهزات الأرضية لاكتشاف محيط ضخم مخبّأ تحت سطح المريخ، مما يضيف بعدًا جديدًا لإمكانيات الحياة وربما لمستقبل الاستكشاف البشري.
ما الذي يعنيه هذا لمستقبل علوم الفضاء؟
ما تزال النتائج الجديدة تثير الكثير من التساؤلات: هل فعلاً توجد كواكب طفولية غير مكتملة مدفونة في أعماق المريخ؟ كيف أثّرت تلك الاصطدامات العملاقة على مصير الكوكب وتكوينه الجيولوجي؟ وهل يمكننا أن نستعين بهذه القبسات من التاريخ لمعرفة أسرار الأرض المبكرة أو حتى مصير كواكب أخرى؟ الأكيد أن مهمة إنسايت والفريق العلمي منحا المجتمع العلمي نافذة مذهلة لاستكشاف البنية الداخلية للكواكب عبر تحليل الزلازل، بعكس ما كنا نستطيع سابقًا من خلال دراسة سطح الكوكب فقط.
وختامًا، يبرهن لنا المريخ مرة أخرى أنه ليس مجرد جار كوكبي فحسب، بل هو خزان أسرار كوني يحتوي على آثار اصطدامات قديمة، قوى جغرافية خامدة، وأحيانًا ربما على "أشلاء كواكب فاشلة". ولعل هذه الاكتشافات تمهد لطريق جديد في دراسة التاريخ المبكر للنظام الشمسي، وتدفع الفضول الإنساني لمغامرة أعمق وأوسع فوق سطح المريخ، وتحت تربته العنيدة أيضا.