ذكاء اصطناعي

تسريب إشارات راديوية هائلة من أقمار ستارلينك تُدخل الفضاء في عصر جديد من المخلفات الرقمية!

محمد كمال
محمد كمال

4 د

العلماء يواجهون تداخلات راديوية من أقمار الإنترنت تمنعهم من الاستماع للكون.

جامعة كيرتن كشفت عن تداخل في 30% من البيانات بسبب أقمار ستارلينك.

إشارات الأقمار الصناعية تتسرب إلى نطاقات محمية للأبحاث الفلكية.

تزايد الأقمار الصناعية يُعيق اكتشافات الكون ويهدد سلامة البحث العلمي.

المجتمع الدولي مدعو لتحسين اللوائح وحماية حقوق الاكتشاف العلمي.

تخيل أنك تحاول الاستماع إلى همسة في وسط ضجيج حفلة صاخبة. هذا ما يعيشه اليوم علماء الفلك الراديوي، إذ يجدون أنفسهم تحت غزو الآلاف من الأقمار الصناعية للإنترنت التي تحلق فوق رؤوسنا. هذه الثورة التقنية، التي وعدت بربط أقصى بقاع الأرض، جلبت معها عائقًا ساكتًا لكنه خطير: تداخل إلكتروني يضيع علينا همسات الكون الخافتة ويهدد أعظم اكتشافات العلم.

هذا التداخل يزداد وضوحًا مع إعلان جامعة كيرتن الأسترالية عن دراسة غير مسبوقة استخدمت 76 مليون صورة، بالاعتماد على أدوات مشروع “مصفوفة الكيلومتر المربع SKA” الضخم المتوقع أن يحدث نقلة كبرى في فهمنا للكون. النتائج كانت مقلقة؛ أكثر من 112 ألف إشارة راديوية صادرة عن 1806 قمرًا من أقمار “ستارلينك” لوحدها، مع ظهور تداخل في ما يصل إلى 30% من مجموع البيانات. يبدو أننا أمام أزمة تزداد مع كل دفعة جديدة من الأقمار الصناعية التي يراد بها تقريب الإنترنت من الجميع، لكن نتيجتها الحقيقية هي إبعادنا عن معجزات الفيزياء والفلك.


من الإنترنت إلى السماء: أقمار ستارلينك تفتح الطريق... وتسد منافذ الاكتشاف

انطلاقة شركات كبرى مثل “سبيس إكس” في نشر أساطيل من الأقمار الصناعية – حيث تخطى عدد أقمار ستارلينك 7 آلاف قمر في المدار – حرّكت طموح ربط العالم رقميًا، خصوصًا المناطق الريفية أو البعيدة عن الشبكات التقليدية. لكن بقدر ما يحمل هذا المشروع من وعود للاتصال والمساواة الرقمية، فهو في المقابل أطلق سيلًا من التداخلات العشوائية، مصدرها تسريبات الإشارات من أنظمة الأقمار نفسها: دوائر الطاقة والمعالجات، أي “الضجيج الإلكتروني الداخلي” الذي لا يمكن التنبوء به أو التحكم فيه بقوانين دولية تقليدية. وتشير الدراسة إلى أن بعض تلك الإشارات ظهرت حتى في نطاقات محمية خصيصًا للأبحاث الفلكية، مثل النطاق 150.8 ميغاهرتز، ما يسلط الضوء على عمق المشكلة وضرورة التصدي لها.

إشارة إلى ذلك، يوضح الباحث “ديلان غريغ” أنّ أقمار ستارلينك باتت، موضوعيًا، أكبر مصدر تداخل أمام علوم الفضاء الراديوية. ويكمن التحدي ليس فقط في كثافة الإشارات، بل في عشوائيتها وعدم قدرة العلماء على تصفيتها أو التنبؤ بمناطق تواجدها، وهو ما يحد من فرص إجراء رصدات دقيقة للضجيج الكوني الأصلي المنبعث من مواقع سحيقة في الفضاء.


ضجيج تقني يحجب إشارات نشأة الكون

هنا يتعزز الربط بين الغايات المتعارضة: مساعينا لفهم بدايات الكون، من تشكل النجوم الأولى، إلى دراسة المادة المظلمة، تعتمد بالكامل على القدرة على التقاط الإشارات الراديوية الخفيفة والمسافرة لمليارات السنين الضوئية، تلك التي تتضاءل أمام عاصفة الضجيج المصطنع القادم من أقمار تدور مئات الكيلومترات فوق رؤوسنا. لهذا السبب يصر العلماء على مفهوم “الصمت الراديوي” أو السلام الكهرومغناطيسي كشرط أساس لاختراق أسرار الكون، وهو أمر بات مهدّدًا بصورة متصاعدة مع كل عملية إطلاق لقمر صناعي جديد.

ولتوضيح خطورة الأمر أكثر، يمكن تشبيه الرصد الراديوي بحفرية أثرية شديدة الحساسية، حيث أدنى حفر زائد – ولو من روبوت صغير – قد يمحي طبقات تاريخية لا يمكن تعويضها. هذا هو ما يحدث حين تتداخل الإشارات الراديوية للأقمار الصناعية مع محاولات التقاط همسات الكون القديمة.


سياسات عاجزة... ونداء لموازنة التقدم والمسؤولية

وفي إطار القوانين الدولية الحالية، كما يشرح البروفيسور “ستيفن تينغاي” المشارك في البحث، يغيب أي تنظيم فعلي للتداخلات غير المقصودة، فاللوائح تفرض فقط على ما يُبث عمدًا من الأقمار الصناعية لكن “الضوضاء الإلكترونية” تبقى خارج الحماية القانونية. من المفارقات أن شركة “سبيس إكس” لا تخالف أي قانون عالمي حتى الآن، وهناك حوارات بناءة جارية مع التوجه نحو حلول تقنية وتشاركية. ربط هذا السياق مع ما سبق يؤكد أن المجتمعات الدولية اليوم مطالبة بابتكار منظومات توافقية جديدة توازن بين حق العالم في الإنترنت وبين واجب البشرية في حماية حقها في الاكتشاف العلمي النزيه.

ذو صلة

ومع دخول مشروع “مصفوفة الكيلومتر المربع” مراحل الحسم، يزداد الشعور بالمسؤولية لحفظ بيئة راديوية نقية لتمكين جيل جديد من الاكتشافات الفيزيائية، عسى ألا يكون ثمن ازدهار الإنترنت هو إطفاء آخر شموع الأمل في تقصي أصول الكون.

هكذا، تبدو القضية في جوهرها دعوة لإعمال الحكمة والتشاركية: يتطلب الطريق نحو إنترنت عالمي تغييرًا في سياسات تنظيم الترددات، وربما إدخال تقنيات عزل إلكترونية أفضل أو سن لوائح أكثر صرامة بشأن تسريبات الإشارات. ولتعزيز تماسك النص، يمكن مثلاً استبدال عبارة “ضجيج إلكتروني داخلي” بـ”تشويش عشوائي” كي تزيد الدلالة وضوحًا، أو إضافة جملة تربط بين الطموحات التقنية والواجب الأخلاقي للعلماء وصناع القرار. فالمستقبل لن يكون للإنترنت فقط، بل أيضًا لرغبتنا الإنسانية الدفينة في الإصغاء إلى صمت السماء واكتشاف أسرارها.

ذو صلة