ذكاء اصطناعي

ثورة في عالم الخرسانة: الذكاء الاصطناعي يصمم مواد بناء قادرة على احتجاز ثاني أكسيد الكربون

محمد كمال
محمد كمال

4 د

طور فريق جامعة جنوب كاليفورنيا منصة "Allegro-FM" لمحاكاة أربع مليارات ذرة.

تهدف التقنية لابتكار خرسانة تحتجز ثاني أكسيد الكربون ولتحمل ظروفًا قاسية لمئات السنين.

الخرسانة المطورة قادرة على مقاومة الكوارث الطبيعية، وإصلاح ذاتي، وتقليل البصمة الكربونية.

التقنية تختصر الوقت باختبار مئات التركيبات الكيميائية رقميًا بسرعة وكفاءة عالية.

الهدف المستقبلي يشمل تطوير مواد بناء للمريخ والقمر، بدعم الذكاء الاصطناعي.

تخيّل مدينةً تُشيّد أبنيتها لتدوم قرونًا، وتحوّل جدرانها إلى حصون أمام التغير المناخي بدل أن تكون مجرد عناصر صامتة في المشهد الحضري. هذا ما وعدت به أحدث تطورات الذكاء الاصطناعي في جامعة جنوب كاليفورنيا، حيث نجح فريق هندسي بقيادة البروفيسورين آيتشيرو ناكانو وكين إيتشي نومورا في تصميم منصة ثورية تدعى "Allegro-FM" تستطيع محاكاة تفاعلات أربعة مليارات ذرة دفعة واحدة. نتيجة هذا الإنجاز قد تغيّر جوهر الهندسة المدنية، إذ أصبح بمقدور العلماء ابتكار خرسانة جديدة قادرة على احتجاز ثاني أكسيد الكربون وتحمل ظروفًا قاسية لمئات السنين، تمامًا كما صمدت الخرسانة الرومانية القديمة.

شهد العالم في السنوات الأخيرة ارتفاعًا غير مسبوق في شدة الحرائق والجفاف والعواصف نتيجة التغير المناخي، ومع استمرار انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون – التي يعتبر إنتاج الخرسانة أحد أبرز مصادرها إذ تساهم بنحو 8% من الانبعاثات العالمية – برزت الحاجة الماسّة إلى حلول جذرية ومستدامة في مجال مواد البناء. هنا تحديدًا بدأ تعاونٌ مثمر بين المتخصصين في الكيمياء الفيزيائية وعلوم المواد، والذي أفضى إلى ابتكار تلك التقنية الحاسوبية الفائقة. Allegro-FM تمكّن العلماء من استكشاف تركيبات جديدة للخرسانة دون الحاجة لتجارب مكلفة ومعقدة على أرض الواقع، بل أصبحت المحاكاة الرقمية على مستوى الذرات إمكانية حقيقية، تسرّع سباق تطوير مواد بناء تمتص الكربون بدلاً من إطلاقه.

وهذا يسلط الضوء بوضوح على التحوّل في دَور الذكاء الاصطناعي، من مجرّد أداة تحليل البيانات إلى قوة دافعة تمكّن البشر من التفكير خارج الصندوق في تصميم المواد. إذ إن نواة الابتكار هنا تكمن في قدرة Allegro-FM على استخدام تقنيات التعلم العميق لتوليد "دوال التفاعل" بين الذرات عبر الجدول الدوري كله تقريبًا، ما يتيح تصور تفاعلات كيميائية معقدة بمستوى من الدقة شبيه بالمحاكاة الكمية، لكن بسرعة وكفاءة أعلى بأضعاف مضاعفة من الطرق التقليدية.


كيف تصبح الخرسانة صديقة للبيئة؟

ويعيدنا هذا الإنجاز العلمي إلى سؤال أساسي: كيف يمكن أن تصبح الخرسانة – المادة الأكثر استخدامًا بعد الماء – حصنًا بيئيًا بدل كونها عبئًا مناخيًا؟ في الواقع، تُظهر محاكاة Allegro-FM أنه من الممكن إعادة ضخ ثاني أكسيد الكربون في بنية الخرسانة نفسها أثناء التصنيع، حيث يتفاعل مع مكونات المزيج ليشكّل طبقات كربوناتية تجعل المادة أكثر صلابة وطول عمر. هذا الاكتشاف لا يؤدي فقط إلى تقليل البصمة الكربونية للمنشآت بل قد يُعزّز متانة الخرسانة لتقترب من صمود الهياكل الرومانية التي تجاوزت الألفي عام.

ومن هنا تنتقل بنا النقطة التالية نحو قدرة الخرسانة المطورة حديثًا على مقاومة الأحداث المناخية القصوى، كحرائق الغابات الشديدة والزلازل، بل وحتى إصلاح نفسها مع الزمن، ما يجعلها خيارًا مثاليًا لبناء مدن أكثر أمانًا واستدامة. هذه الخصائص لا تقتصر فقط على المباني الجديدة بل يمكن الاستفادة منها في ترميم الجسور والبنى التحتية، خاصة في مدن عرضة للكوارث الطبيعية مثل لوس أنجلوس.

ولعل المدهش في هذا الأسلوب الجديد أنه يختصر سنوات من الأبحاث المخبرية، إذ أصبح بالإمكان اختبار مئات التركيبات الكيميائية للمواد خلال فترة قصيرة بالحاسوب، وبهذا تتسارع وتيرة الابتكار إلى مستوى غير مسبوق في تاريخ علوم المواد. هذا الإنجاز يُقرّب الباحثين خطوات واسعة من صناعة خرسانة محايدة كربونيًا تستطيع أن تُغيّر وجه المدن في القرن الواحد والعشرين.


تحديات وتتطلعات المستقبل

ذو صلة

ومع هذا الإنجاز المهم، يواصل فريق Allegro-FM جهوده لاستكشاف إمكانيات أوسع: مثل تصميم خرسانات قادرة على امتصاص الكربون طوال فترة استخدامها، وتطوير مواد بناء مقاومة للإشعاع أو قادرة على إصلاح نفسها تلقائيًا، وربما حتى تحضير خرسانة مثالية لبناء مستعمرات بشرية على سطح المريخ أو القمر في المستقبل القريب. كل هذه الطموحات أصبحت أقرب إلى الواقع بفضل الذكاء الاصطناعي الذي أعاد تعريف حدود الممكن في هندسة المواد.

ختامًا، تبرز أهمية التفاصيل الدقيقة في مثل هذا النوع من الأبحاث؛ إذ يُمكن أحيانًا استخدام مصطلح كـ"امتصاص الكربون" بدل "احتجاز الكربون" لجعل المعنى أكثر وضوحًا، أو إضافة جمل رابطة ما بين عناصر المحاكاة الرقمية والتحديات البيئية لتقوية وحدة النص. باختصار، المستقبل يفتح أبوابه أمام نهضة عمرانية مستدامة ترتكز على مواد أذكى وأصلب وأكثر صداقة لكوكبنا، وكل ذلك يبدأ بذرة رقمية في مختبر الذكاء الاصطناعي.

ذو صلة