خريطة الجينات البشرية تكتمل أخيرًا: قفزة نوعية في تشخيص الأمراض وتنوع جيني عالمي

4 د
أعلن العلماء عن استكمال خريطة الجينوم البشري بما في ذلك مناطق داكنة سابقة.
استخدام تقنيات تسلسل حديثة ساهم في سَد 92% من الفجوات.
كشف الخرائط الجديدة إمكانية فهم الجينات المعقدة وتحليل الطفرات النادرة.
أتاح الجينوم الشامل تجاوزه للماضي ويمثل تنوعًا أعراقياً أوسع.
يدعم الإنجاز تحسين التشخيص ويعزز التطورات بالعلاجات الوراثية.
لعشرات السنين، كان رسم خريطة الجينوم البشري حلمًا يراود العلماء والأطباء على حد سواء. رغم نجاح المشاريع السابقة في تحديد ملايين الحروف الوراثية ضمن الشيفرة الجينية، بقيت هناك مناطق داكنة في هذه الخريطة، عاجزة عن البوح بأسرارها. اليوم يأتي الإعلان الذي طال انتظاره: فريق بحثي عالمي توصل إلى أكثر مرجع جيني مكتمل حتى اللحظة، ليضيء الزوايا المظلمة في الشيفرة الوراثية، ويمنح خبراء الصحة والمختبرات أدوات أقوى لفهم الأمراض وتشخيصها.
تأتي أهمية هذا الإنجاز بعد أن عانى العلماء طويلاً من وجود فجوات كبير في الجينوم، جعلتهم غير قادرين على قراءة أجزاء معقدة أو متكررة من الحمض النووي. من خلال دراسة شملت 65 جينومًا متنوعًا من حيث الأصول البشرية، نجح الفريق بقيادة الدكتورة كريستين بيك من جامعة كونيتيكت ومختبر جاكسون في سد 92% من الفجوات المتبقية. هذه الخريطة الجديدة تتيح للأطباء فحص مناطق كانت سابقًا مجهولة أو مشوشة، مما يفتح الآفاق أمام كشف الطفرات الوراثية النادرة وتحليل التغيرات الجينية المعقدة.
ولعل من أهم نتائج هذا المشروع أنه جعل مناطق حرجة في الجينوم مرئية للمرة الأولى، مثل التسلسلات المرتبطة بضمور العضلات الشوكي—a مرض يصيب الأطفال غالبًا—إضافة إلى مجمع التوافق النسيجي الرئيسي، وهو قسم مزدحم من الجينات ذو صلة بأكثر من مائة حالة صحية مختلفة. هذا التحول النوعي في القدرة على رؤية وتحليل الحمض النووي يربط بوضوح بين دقة التحليل الوراثي وتطوير استراتيجيات علاجية فريدة ومدروسة.
تقنيات حديثة تكشف المستحيل
ولتوضيح كيف تم هذا الإنجاز، استخدم العلماء تقنيات تسلسل متطورة قادرة على قراءة مقاطع طويلة جدًا من الحمض النووي، بخلاف الأساليب التقليدية التي كانت تقتصر على أجزاء قصيرة وتقع في أخطاء عند مواجهة تسلسلات متكررة أو معقدة. بالاستفادة من مزيج بين قراءات دقيقة جدًا وأخرى فائقة الطول، استطاعوا إعادة بناء تسلسل وراثي كامل لكل مشارك، شاملاً نسختي الأم والأب من الجينوم.
استكمالاً للحديث عن التطورات التقنية، سمح هذا النهج بإنهاء تسلسل بعض الكروموسومات بالكامل في ما يقارب أربع من كل عشر حالات، وهي نسبة لا تقارن مع محاولات الدراسات الأقدم. بل إن نشر نتائج وأساليب العمل يتيح الآن للعلماء حول العالم الاستفادة المباشرة، وبناء تحاليلهم دون الاضطرار للبدء من نقطة الصفر.
وبالنتيجة، تمكن الباحثون من رصد نحو ألفي طفرة معقدة كان يصعب اكتشافها سابقًا، بالإضافة إلى أكثر من 12 ألف قطعة من الحمض النووي القافز—وهي أجزاء تستطيع تغيير أماكنها والتأثير على عمل الجينات المجاورة. كما تم رسم خرائط كاملة لأكثر من 1200 مركز كروموسومي، وهي النقاط التي تضمن انقسام الكروموسومات بشكل صحي خلال التكاثر الخلوي.
يمهد هذا الكشف الطريق لفهم أعمق لآلية الثبات الوراثي، خاصة بعد اكتشاف وجود نقطتي اتصال في بعض المناطق بدلًا من واحدة، وهو ما قد يغير بعض الفرضيات حول أسباب بعض أمراض الخصوبة والسرطان المرتبطة باضطراب الكروموسومات.
منظور عالمي أكثر شمولًا
ولا يتوقف الأمر عند حدود المختبرات فقط، إذ يعالج الفريق أخطاء الماضي التي اقتصرت خلالها دراسات الجينوم على أعراق أوروبية بالدرجة الأولى. الآن تضم الخريطة الجديدة جينومات من أصول إفريقية وآسيوية وأمريكية جنوبية وعدة مناطق أخرى، ما يعالج مشكلات اختلال نتائج التشخيص واختلاف استجابة المرضى للعلاجات حول العالم.
وهذا التنوع يضع حداً للفجوات التي طالما عانى منها الأطباء، حين يستبعد الفحص المخبري طفرات معينة، ليكتشف على أرض الواقع أنها مرتبطة ببعض الأمراض لدى مرضى ينتمون لمجتمعات غير ممثلة في الدراسات القديمة. اليوم، يستطيع المختبرون تضييق قائمة الطفرات الخطرة من عشرات الآلاف إلى بضع مئات فقط، ملخصين أشهر من البحث في أيام معدودة. ذلك يعزز كشف الأمراض النادرة ويقلل حجم التخمين في التشخيص السريري.
ومع استمرار انخفاض تكلفة التسلسل الجيني، التي أصبحت أقل من عشرة آلاف دولار في بعض البلدان بعد أن كانت بالملايين، بدأ الأطباء بالفعل اعتماد التحليل الكامل للجينوم في الفحوصات التشخيصية، بدلًا من الاكتفاء ببعض الأجزاء أو توقع الاحتمالات.
ماذا بعد؟ آفاق جديدة في الطب والعلوم الوراثية
بالمحصلة، يمثل هذا الإنجاز أكبر قفزة في علم الوراثة البشرية منذ رسم الخريطة الأولى للجينوم قبل ربع قرن. فبدلًا من الاعتماد على رسومات أولية أو مناطق ناقصة، بات الأطباء الآن يمتلكون “كتاب التعليمات” الوراثي شبه الكامل لغالبية البشر، ما يمهد الطريق لتطوير فحوصات تنبؤية وتحسين البرامج الصحية للأطفال حديثي الولادة ورفع كفاءة علاجات الأمراض الوراثية في شتى بقاع الأرض.
ومن المثير أن بعض المناطق التي عُدّت ذات يوم “نفايات وراثية” اتضح أنها تحتضن معلومات مهمة عن مناعة الجسم، والهضم، وأمراض العضلات، وغيرها الكثير من الحالات الصحية. هذا يدعونا لإعادة التفكير في الكثير من المصطلحات والتصنيفات العلمية المتداولة حول الشيفرة الوراثية.
باختصار، كما يقول أحد العلماء المشاركين في الدراسة، نحن في بداية مشوار جديد يتيح استكشاف الجينوم البشري بطرق لم تكن ممكنة من قبل. وربما لو استبدلنا مصطلح “الجينوم الكامل” بعبارة “الجينوم الشامل متعدد الأصول” لأعطينا صورة أدق عن غنى وتنوع هذا الإنجاز. وربما سيكون من المفيد لو أضفنا جملة ربط مختصرة توضح أن التحسن في دقة الجينوم سينعكس مباشرة على فعالية التشخيص والعلاجات في المستقبل القريب—ليدرك القارئ أن هذه القفزة ستمس حياته اليومية قريبًا جدًا.