ذكاء اصطناعي

خصيتان وهميتان تُربكان ذكور الحبار وتكشفان خدعة الطبيعة!

محمد كمال
محمد كمال

3 د

تستخدم أنثى الحبار خدعة بصرية لدرء مضايقات الذكور عبر "خصيتين وهميتين".

تتحكم بإضاءة شريط أبيض على جلدها لمحاكاة شكل خصية الذكر البيضاء.

الخلايا المسؤولة عن هذه الحيلة تحوي بروتينات "ريفلكتين" تعكس الضوء الأبيض.

حيلة التمويه تساعد الحبار في الدفاع عن النفس والبقاء في البيئة البحرية.

تخيلوا معي، أعزائي القراء، أن وسيلة أنثى الحبار الشرقية الصغيرة لحماية نفسها ليست الهروب السريع أو القتال الشرس، بل ببساطة "رسم" خصيتين وهميتين على جسدها! ففي عالم الكائنات البحرية المذهل، تبرع هذه المخلوقات الشفافة المتلألئة بحيلة تمويه عبقرية لدرء مضايقات الذكور وغزواتهم المتكررة، مستخدمةً قدرات خارقة في تغيير لون الجلد. في السطور التالية، نغوص في تفاصيل هذا الاكتشاف العلمي الطريف، ونكشف أسرار الخلايا الغريبة التي ابتكرها الحبار لذلك.


من داخل مختبرات كاليفورنيا إلى أعماق المحيط

يبدأ السر في معمل بجامعة كاليفورنيا، حيث لاحظ الباحث دانيال دي مارتيني أنثى حبار الساحل الشمالي اللافحة، وتُعرف علميًا باسم Doryteuthis opalescens، تومض فجأة بشريط أبيض لامع على جلدها ثم تطفئه كأنها تتحكم بمصباح كهربائي صغير. هذه اللمعة الفاتنة ليست مجرد زينة، بل تحاكي تمامًا شكل خصية ذكر الحبار البيضاء الطويلة والواضحة داخل جسمه الشفاف. المشهد أشبه بحيلة مسرحية بارعة: أنثى تلبس قناع ذكر لتخدع من حولها.

وهذا يربط بين حياة الحبار في البحر وحاجتها لاتقاء غزوات الذكور، فموسم التزاوج يتحول غالبًا إلى تجمعات مكتظة تموج بالصراخ والألوان، حيث تتعرض الإناث لمحاولات تودد متكررة. وبفضل هذه الحيلة البصرية المدهشة، تستطيع الأنثى ببساطة تشغيل "شريط الذكر" لتوحي بأنها غير مهتمة أو حتى أنه لا فائدة من مغازلتها، فتحمي نفسها وبيضها المخصب من الإزعاج.


سرّ "الخصيتين الوهميتين": خلايا رائعة وصناعة بيولوجية معقدة

لكن كيف تفعل الحبار كل ذلك؟ الجواب يكمن في نوع خاص من الخلايا لم تعرف البشرية وجودها من قبل. يحمل هذا الشريط الفاتح خلايا تحوي بروتينات فريدة تُسمى "ريفلكتين"، تتجمع داخل حويصلات كروية صغيرة. هذه البروتينات تبدأ من دون لون لكن عند تلقي إشارة عصبية تصل من دماغ الحبار، تنكمش الحويصلات وتتكدّس فتصبح الخلية كأنها مرآة صغيرة تعكس كل أطياف الضوء دفعة واحدة، مانحة الجلد لونه الأبيض الساطع. الغريب أن هذه العملية تشبه كثيرًا صناعة الطلاء الأبيض عند البشر، حيث نعلّق جزيئات صغيرة من ثاني أكسيد التيتانيوم في سائل الطلاء لتنعكس جميع ألوان الضوء وتبدو لنا بيضاء ناصعة.

وهذا الاتصال بين البيولوجيا البحرية والتقنيات البشرية يكشف لنا مصطلحات علمية متعددة كالبيوفوتونيات (الديناميك الضوئي الحيوي)، وانعكاس الضوء، والحس العصبي، كما يسلط الضوء على قدرات التمويه المتقدمة لدى رأسيات الأرجل مثل الحبار والحباريات والأخطبوط والحبار القزمة.


تنوع التمويه: ألوان وسلوكيات لا مثيل لها

ما يثير الدهشة أكثر أن هذه البروتينات نفسها هي المسؤولة عن التأثيرات الكثيرة التي نراها في جلد الحبار. فبالإضافة إلى إنتاج اللون الأبيض، يستطيع الحبار تعديل طريقة ترتيب هذه البروتينات في الخلية ليُظهر طيفًا واسعًا من الألوان القزحية، من الأحمر الداكن إلى الأزرق اللامع. بمجرد تغيير ترتيب البروتينات وتقلصها، يتغير اللون المنعكس وتستجيب الخلية بسرعة مذهلة، في ما يشبه عروض الضوء في أعماق البحر.

هذا يوضح أن حيل التمويه هذه لم تُصمم فقط للزينة أو الإغراء، بل تحتل أيضًا مكانة أساسية في الدفاع عن النفس والبقاء، وتمنح الحبار قدرة مدهشة على التعامل مع بيئته الغامضة ورجالها الفضوليين.

ذو صلة

خاتمة: ذكاء بيولوجي في علب صغيرة

وبينما قد تبدو هذه القصة أقرب إلى أسطورة بحرية مرحة، إلا أنها تكشف لنا جوانب مذهلة من الذكاء البيولوجي وأسرار الخلايا الحية. إذ تمزج أنثى الحبار بخفة دم بين العلم والفن، وتجعلنا نعيد النظر في ما يمكن أن تفعله الكائنات الصغيرة لحماية نفسها في عالم المحيطات الواسع. من "الخصيتين الوهميتين" إلى القدرة على التمويه اللحظي، يمنحنا الحبار درسًا جديدًا في البقاء والتكيّف، ويتركنا نستمتع بحكايا عجيبة من أعماق البحر لا تنتهي.

ذو صلة