خلايا بلا طاقة: كيف ساعد العلماء الخلايا على التخلص من الميتوكوندريا وكشف أسرارها

4 د
استطاع العلماء إزالة المتقدرات من الخلايا لمعرفة دورها العميق في الحياة.
التجربة بيّنت أن الخلايا معدومة المتقدرات ظلت حية لكنها توقفت عن الانقسام.
تم دمج خلايا بشرية مع خلايا قردة، ولاحظوا تفضيل الخلايا للمتقدرات البشرية.
تشير النتائج إلى دور المتقدرات في تطور الأجنة وصحتها منذ المراحل الأولى للحياة.
تفتح الأبحاث آفاقًا جديدة لدراسة دور المتقدرات في الأمراض الوراثية والتطور البيولوجي.
تخيل أن بإمكان العلماء إزالة “محطات الطاقة” الصغيرة التي تعيش داخل خلايا أجسامنا ليكتشفوا أسرارها الدفينة. هذا تمامًا ما فعله فريق بحثي من مركز ساوث ويسترن الطبي بجامعة تكساس (UTSW)، حيث استطاع تطوير طريقة جينية تجبر الخلايا الجذعية والأجنة على التخلص من المتقدرات (الميتوكوندريا)، ليغوصوا عبر ذلك إلى أعماق وظائف هذه العضيات الغامضة. النتائج أضاءت العديد من الجوانب المجهولة حول دور المتقدرات، وقد تفتح الباب لعلاجات جديدة لأمراض الميتوكوندريا مثل متلازمة ليغ ومتلازمة كيرنز-ساير، المعروفة بتأثيرها على عدة أعضاء في الجسم.
من المعلوم علميًا أن المتقدرات هي الهياكل الدقيقة المسؤولة عن إنتاج أدينوسين ثلاثي الفوسفات، جزيء الطاقة الرئيسي الذي تعتمد عليه كل خلية تقريبًا. ومع ذلك، مازال الغموض يلف بالتفصيل كيف تتواصل المتقدرات مع نواة الخلية وكيف أن هذه العلاقة تؤثر في تطور الأنسجة، الشيخوخة، نظم الإشارة داخل الخلية، وحتى عمليات الموت المبرمج. وهنا ظهرت فكرة الفريق البحثي: ماذا سيحدث إذا أُزيلت المتقدرات كليًا؟ هل تستطيع الخلايا البقاء، أم أن حياتها متعلقة بهذه العضيات فقط؟
من النواة إلى النواة: تجربـة هندسة الإقصاء
لبحث هذه الأسئلة، لجأ العلماء إلى ما يُعرف بالالتهام الذاتي للمتقدرات أو “الميتوفاجي” – عملية طبيعية تخلص الخلية من المتقدرات المتهالكة. لكن بدلاً من انتظار الخلايا حتى تتخلص من المتقدرات التالفة، استخدم الباحثون هندسة جينية لتحفيز التخلص الكلي الإجباري من جميع المتقدرات. وعندما طبقوا هذه التقنية على الخلايا الجذعية البشرية، لاحظوا أن الخلايا فقدت قدرتها على الانقسام، لكنها بقيت حية في أطباق المخابر لبضعة أيام. الأمر المدهش أن هذه التجربة نجحت أيضًا على خلايا فئران وعلى خلايا تحمل طفرات جينية في الميتوكوندريا، ما أشار لإمكانية تعميم الطريقة على أنواع متعددة من الكائنات والخلايا.
ويكشف هذا التوجه عن مدى قدرة الكائنات الحية على التكيف، إذ أظهرت الأبحاث أن الخلايا المعدومة من المتقدرات غيّرت التعبير الجيني في مئات الجينات. ورغم توقف انقسام الخلايا، استطاعت عبر محركات داخلية في النواة استبدال بعض وظائف الطاقة، في مقدمتها العمليات الحيوية الأساسية، بواسطة بروتينات مشفرة نوويًا عادة لا تلعب هذا الدور.
هذا الإبداع العلمي دفع بالفريق لإجراء تجارب أخرى لمعرفة كيف يحدث “حوار” أو تفاعل بين متقدرات ونوى أنواع قريبة من بعضها، مثل البشر والقردة العليا. قام العلماء بدمج خلايا جذعية بشرية مع خلايا قردة عليا كالشيمبانزي والغوريلا وإنسان الغاب، فنتجت “خلايا مركبة” تحتوي على مادتين وراثيتين ومجموعتين من المتقدرات. لاحظ الفريق أن الخلية اختارت إبقاء المتقدرات البشرية فقط، وتخلصت من متقدرات القرد، وكأن هناك منظومة تشفير بين السلالات تحدد “الأصل المسموح بقبوله” داخل الخلية.
وهذا التداخل الوراثي يربط، بصورة مثيرة، التطور البيولوجي بتخصصات مثل الأمراض العصبية وأبحاث الدماغ؛ حيث وجدت الدراسة أن معظم الجينات التي اختلفت في تعبيرها بين الخلايا الهجينة كان لها علاقة واضحة بتطور الدماغ أو الاضطرابات العصبية مثل التصلب الجانبي الضموري وألزهايمر، ما يوحي بأن للمتقدرات يدًا قد تكون خفية في تطور الاختلاف العقلي بين الإنسان وأقربائه.
تأثير فقدان المتقدرات على تطور الجنين
انطلاقًا من نتائج تجارب الخلايا، انتقل البحث لدراسة تأثير نقص المتقدرات على الأجنة بالكامل. قام العلماء بتقليل كمية المتقدرات بطريقة مبرمجة وراثيًا داخل أجنة فئران، ثم زرعوها في أمهات حاضنة. لم يتمكن الأجنة الذين فقدوا أكثر من 65% من متقدراتهم من التعلق برحم الأم وبالتالي لم تبدأ دورة الحمل. أما الأجنة التي احتفظت بثلث متقدراتها تقريبًا، فقد شهدت تأخرًا في النمو، سرعان ما تداركته لاحقًا حتى وصلت لمستوى نمو طبيعي وعدد طبيعي من المتقدرات في منتصف فترة الحمل.
يربط هذا الاكتشاف دور المتقدرات ليس فقط في بقاء الخلية، بل في توقيت التطور الجنيني وصحة الأنسجة منذ أول مراحل الحياة، كما يشير إلى أن الخلية قد تمتلك قدرة تعويض ذاتية في بعض الظروف.
آفاق بحثية جديدة في علم المتقدرات
خلاصة هذه السلسلة من التجارب تفتح الطريق أمام حقبة جديدة في دراسة وظائف المتقدرات العصية الفهم؛ فقد أصبحت هناك وسيلة مباشرة لفحص دورها في التعبير الجيني، تطور الأعضاء، الشيخوخة، والاختلاف بين الأنواع – وكلها مواضيع عميقة في علم الوراثة التطوري والبيولوجيا الجزيئية. يعتزم الباحثون استغلال تقنية الإقصاء الموجه للمتقدرات لمواصلة سبر أغوار هذه الهياكل الغامضة في المستقبل.
عندما نمعن النظر في هذه الدراسة، نلاحظ كيف كان استبدال عبارة “التهام ذاتي” بمرادفها “الميتوفاجي” يعطي النص خصوصية وثراء لغويًا، كما أن التركيز على مقارنات الخلايا المركبة يعزز من ترابط الأفكار حول العلاقة التطورية بين الإنسان والقردة العليا. ربما لو تمت إضافة جملة ربط بين الفقرة التي تناولت تعديل الأجنة والاكتشافات المتعلقة بتطور الأمراض، لأصبحت الصورة أكثر وضوحًا حول القيمة السريرية لهذه النتائج. يظل هذا العمل العلمي دليلاً حيًا على أن أسرار الحياة الكبيرة قد تكمن أحيانًا في أصغر أجزائها.