دراسة جديدة: معاناة الأب في الطفولة تترك بصماتها في خلايا الحيوانات المنوية

3 د
تظهر دراسة جديدة أن معاناة الآباء في الطفولة تترك علامات بيولوجية في خلاياهم.
تغيرات جينية تُظهر كيف يمكن للماضي النفسي للأب التأثير على ذريته.
المجال العلمي "اللاجينية" يُظهر دور الظروف البيئية في تعديل عمل الجينات دون تغييرها.
تؤكد الدراسة أهمية تحسين الصحة النفسية للآباء على صحة وأجيال المستقبل.
الشفاء النفسي يُعتَبَر خطوة فعالة نحو مستقبل وراثي أكثر توازنًا للأجيال القادمة.
تخيل لو أن الألم أو الضغط النفسي الذي عشناه في سنوات الطفولة لا ينحصر فقط في الذكريات أو السلوكيات، بل ينعكس أيضاً في شيفرتنا الوراثية. هذا ما بدأت يكشفه الأبحاث الحديثة حول تأثير الصدمات النفسية التي يتعرض لها الآباء في أعمار مبكرة، إذ تشير نتائج دراسة علمية منشورة في مجلة "الطب النفسي الجزيئي" إلى أن التجارب القاسية لا تترك فقط أثراً عاطفياً، بل تسجل أيضاً علامات بيولوجية دقيقة داخل الحمض النووي في خلايا الحيوانات المنوية.
في مقدمة هذه الاكتشافات اللافتة، أظهرت الدراسة أن الرجال الذين عانوا من مستويات مرتفعة من الضغط النفسي أو الإهمال العاطفي في طفولتهم، تظهر لديهم تغييرات واضحة في ما يُعرف بـ"السمات اللاجينية" بالحيوانات المنوية. هذه العلامات الكيميائية، مثل الميثيل في الحمض النووي (DNA methylation) وظهور جزيئات RNA صغيرة غير مشفرة، لا تغيّر تسلسل الشيفرة الوراثية نفسها، ولكنها تؤثر على كيفية ترجمة الجينات وتأثيرها في الجسم والنفس. ويرى العلماء أن هذه الإشارات يمكن أن تفسر ولو جزئياً كيف يمكن لماضي الأب النفسي أن يؤثر على تطور دماغ الأبناء وحتى على صحتهم النفسية في المستقبل.
ويمتد الحديث هنا إلى مفهوم "اللاجينية" أو epigenetics، وهو أحد أكثر المجالات العلمية إثارة اليوم. ببساطة، اللاجينية تعني أن الظروف البيئية والتجارب الشخصية، وعلى رأسها الصدمات أو ضغوط الحياة، قادرة على تعديل عمل الجينات دون تغيّر الحروف الأساسية للحمض النووي. ويمكن لمثل هذه التعديلات، نظرياً، أن تنتقل للجيل التالي من خلال الخلايا التناسلية. وهذا الربط بين الصحة النفسية للآباء ومستقبل أبنائهم لم يعد مجرّد نظرية، بل أصبح أمامنا اليوم معطيات ملموسة تدعونا للتأمل في خطورة إهمال الصحة النفسية وتأثيرها التنظيمي العميق على الأجيال.
وهنا يبرز سؤال جوهري: هل يعني ذلك أن أبناء الآباء المعرضين للصدمات القدامى محكومون بتكرار نفس الدائرة؟ في الواقع، الدراسة لا تدعي أن التغييرات اللاجينية حتمية أو لا رجعة فيها عند انتقالها بين الأجيال، بل تفتح الباب أمام نوع جديد من المسؤولية والوعي—حيث يمكن أن يكون لتحسن الصحة النفسية والتغلب على التوتر تأثيرات إيجابية عميقة، ليس على الأب وحده، بل أيضاً على ذريته المستقبلية. فالعلم الحديث يشير إلى أن أنماط الحياة الصحية، مثل الدعم النفسي والعلاج والتمارين الرياضية، يمكن أن تساعد في إعادة ضبط بعض هذه العلامات البيولوجية. وفي هذا السياق، يصبح الحديث عن "شفاء الأجيال" ليس مجرد تعبير مجازي، بل مساراً علمياً واقعياً.
إن إدراك عمق الصلة بين معاناة الآباء وبين صحة وسلوك الأبناء، يدعونا لإعادة التفكير في مفهوم الإرث. فلم تعد الوراثة تقتصر فقط على لون العيون أو الطول أو ملامح الضحكة، بل تشمل أيضاً التفاعلات غير المرئية التي تبدأ في الصمت—داخل الخلايا التناسلية نفسها. وهذا يسلط الضوء على أهمية معالجة الضغوط والصدمات، فالتجاهل أو الكتمان قد لا يؤدي إلى نسيانها فعلاً، بل ربما يتركها عالقة في العمق البيولوجي للعائلة.
خاتمة الموضوع تثير فينا الرغبة في إعادة كتابة "القصة الوراثية" التي تنتقل من جيل إلى آخر. إذا كانت آلام الماضي قادرة على رسم ملامح المستقبل علمياً، فإن اختيار الشفاء والاعتناء بالصحة النفسية هو أداة حقيقية لكسر الدائرة وصناعة إرث جديد متوازن وقوي. وقد يكون من الأفضل أحياناً استعمال كلمة "العناية الذاتية الواعية" بدلاً من "العلاج الذاتي" لأن الأولى تحمل مدلول التركيز على الخطوات الفعالة، وحتى إضافة جملة ربط قصيرة عند الانتقال بين فكرة أهمية العناية النفسية والنتائج الجزيئية سيمنح النص انسجاماً أكبر. في النهاية، الرسالة الجوهرية لما كشفته هذه الدراسة تؤكد أننا لا نحمل جينات من سبقونا فقط، بل أيضاً جزءاً من صراعاتهم أو صمودهم أمام الحياة—وعلينا أن نختار اليوم كيف نجعل هذا الإرث خطوة نحو مستقبل أكثر صحة وسكينة لنا ولأطفالنا.