ذكاء اصطناعي

رحلة الأرض: كيف تحولت من كرة نار ملتهبة إلى كوكب نابض بالحياة؟

محمد كمال
محمد كمال

3 د

تقدم محاكاة جديدة لمحة عن الأرض قبل 4.

5 مليار عام كـ"كوكب الحمم".

استغرق تبريد سطح الأرض ملايين السنين، مكونًا محيطات صهارية ضخمة تحت القشرة.

كشفت المحاكاة عن وجود معادن على أعماق غير متوقعة في باطن الأرض.

انقسم الوشاح الأرضي إلى طبقات متفاوتة، تشكلت منها قشرة الأرض والنواة الصخرية.

توفر هذه المحاكاة رؤى جديدة لفهم تطور الأرض والكواكب الصخرية الأخرى.

هل تخيلت يوماً كيف كانت تبدو الأرض في بداياتها؟ علماء من جامعة يورك يقدمون لنا نافذة فريدة على ما كانت عليه الأرض قبل نحو 4.5 مليار سنة، في مرحلة لم تكن الأرض فيها سوى كرة ملتهبة تشبه مصباحاً هائل الحجم يملؤه سائل صخري متأجج.

عُرفت الأرض حينها باسم كوكب الحمم، حيث كان سطحها بأكمله أشبه بمحيط هائل من الصهارة المتدفقة، وهي صورة بعيدة جداً عمّا نراه اليوم من محيطات زرقاء وقارات خضراء هادئة.


المحيط الصهاري العملاق: بداية رحلة الأرض نحو الاستقرار

لم يكن بركان الأرض الشامل هذا ظاهرة مؤقتة، بل استمر ملايين السنين، وتُظهر المحاكاة الجديدة التي طورها الباحثون أن تبريد السطح الصخري بدأ بشكل تدريجي وغير متساو، مما نتج عنه محيط هائل من الماغما عند القاعدة. تخيل معي محيطاً من الحديد المنصهر موجوداً على بعد نحو 2900 كيلومتر تحت الأرض، أعلى بقليل من نواة كوكب الأرض المعدنية.

وقد أكدت البيانات الزلزالية الحديثة وجود مساحات شاسعة داخل الوشاح الأرضي تعيق بشكل واضح موجات الزلازل، مما يلمّح إلى وجود هذه المنطقة الغامضة والدافئة ضمن أعماق الأرض، وهو ما أطلق عليه العلماء تسمية "المحيط السفلي للصهارة".

ليس هذا فقط، بل إن هذه المناطق من المحيط الصهاري لا تزال آثارها واضحة حتى اليوم تحت مناطق مثل المحيط الهادئ وبعض أجزاء إفريقيا، على عمق يصل لأكثر من 1800 ميل.

ومن أجل فهم هذا المشهد المذهل وتفاصيله، قام البروفيسور تشارلز إدوارد بوكاري وفريقه في جامعة يورك بابتكار ما يُعرف بنموذج "بامباري" الحاسوبي، لمحاكاة أول مئة مليون عام في تاريخ كوكبنا.


اكتشافات مفاجئة حول حركة المعادن داخل الأرض

وهنا كانت المفاجأة: بيّنت هذه المحاكاة ظواهر غير متوقعة على الإطلاق، فخلال هذه المرحلة الابتدائية الساخنة من تاريخ الأرض، انقسم الوشاح إلى طبقات واضحة تختلف في تكوينها المعدني. الأخف وزناً منها اتجهت نحو الأعلى لتشكل قشرة الأرض، بينما غرقت المعادن الأثقل والغنية بالحديد للقاع، مكوّنة طبقات عميقة ما زالت آثارها موجودة حتى يومنا هذا.

والأمر الأكثر غرابةً هو اكتشاف وجود معادن مثل الزبرجد الزيتوني (الأوليفين)، المعتاد ظهورها قرب السطح فقط، في أعماق تصل إلى حوالي 1200 ميل تحت سطح كوكبنا، وهذه النتيجة وحدها تضيف مزيداً من التشويق لتعقيد الصورة السابقة عن بنية الأرض الداخلية.

أظهرت هذه المحاكاة الدقيقة ايضاً أن هذه التكتلات المعدنية التي غرقت للأسفل خلقت طبقة من الصخور المنصهرة فوق النواة، بسمك بلغ نحو 300 ميل. هذه "الغطاء السائل" لعب دوراً أساسياً بصفته حافظة حرارة لكوكب الأرض، مكّنت من الحفاظ على درجة حرارة نواته لمئات ملايين السنين.

وبفضل نموذج بامباري أيضاً، تمكّن الباحثون من فهم العلاقة بين تكوين الوشاح قديماً وبين البنية الحالية لكوكبنا. فالنتائج تشير بقوة إلى أن ما يُعرف اليوم بـ "أعمدة الوشاح الفائقة" (LLSVPs)، هي في الواقع بقايا هذه المحيطات الصهارية الضخمة التي تشكّلت في الأيام الأولى لكوكبنا وتقع الآن تحت إفريقيا والمحيط الهادئ، وتصل ارتفاعاتها إلى أكثر من 600 ميل من النواة إلى الأعلى.

تشكّل هذه الأعمدة مصدراً لمناطق البراكين النشطة مثل جزر هاواي وآيسلند، مما يسلط الضوء على العلاقة المستمرة بين الوضع الجيولوجي الحالي والماضي السحيق للأرض.

ذو صلة

ليس هذا فحسب، بل تفتح هذه الأبحاث آفاقاً جديدة لدراسة تطور الكواكب الصخرية الأخرى. فالمريخ مثلاً، بسبب حجمه الصغير والتبريد السريع مقارنةً بالأرض، لم يتمكن من الحفاظ على محيطه الصهاري طويلاً مما أدى لفقدانه غلافه الجوي ومجاله المغناطيسي مبكراً. في المقابل، الكواكب الضخمة التي تدور حول نجوم أخرى، قد تحتفظ لفترات أطول بهذه المحيطات الصهارية، ما يسمح ربما بنشوء واستمرار أشكال حياة.

في الختام، يبدو واضحاً أن رحلة الأرض الطويلة من كرة ملتهبة من الصهارة إلى كوكب غني بالحياة استغرقت ملايين السنين، وشكلتها ظروف استثنائية متعددة العوامل. تقدم هذه المحاكاة نموذجاً مدهشاً يمكنه إلهام دراسات مستقبلية لتاريخ الكواكب الأخرى، وكذلك تشجيعنا على إعادة النظر بشكل أعمق في فهمنا للكون من حولنا. ولعل تقديم مصطلحات أكثر تحديداً أو إضافة أمثلة على الكواكب الأخرى كان سيمنحنا صورة أوضح وأشمل عن النتائج التي توصل إليها العلماء.

ذو صلة