رسالة سرية في جيناتنا: اكتشاف دور جديد للحمض النووي الخاص بك

4 د
أظهرت الأبحاث أن "DNA الخردة" يلعب دورًا مهمًا في تنظيم الجينات.
تكشف تقنيات حديثة عن قدرة مستنسخات قديمة على تنشيط الجينات.
أظهر التصفيف الجديد لأجزاء MER11 وظائف تنظيمية معقدة.
تؤكد الدراسات أن الفيروسات القديمة تؤثر في تطور الجينوم البشري.
الحمض النووي يُعيد صياغة مفاهيم تطور الجينات وديناميكيتها.
في كشف علمي قد يقلب الكثير من المسلّمات عن الجينات، أظهر باحثون دوليون أن أجزاء من الحمض النووي التي طالما اعتُبرت بلا فائدة، والتي تسمى أحياناً بـ"DNA الخردة"، هي في الحقيقة تحمل شيفرة قوية تساهم في تنظيم نشاط الجينات، خصوصاً في مراحل التطور الأولى عند البشر.
عرف البشر منذ زمن أن جيناتهم ليست مجرد تعليمات لصنع البروتينات، بل تضم أيضاً شفرات صامتة—أو هكذا اعتُقد. هذه الشفرات، وهي بقايا من فيروسات قديمة التصقت بحمضنا النووي قبل ملايين السنين، تُسمى "العناصر القابلة للانتقال" أو Transposable Elements (TEs). وبدلاً من أن تكون عبئاً جينياً، كشفت الأبحاث الحديثة أن بعضها يعمل كمفاتيح جينية، تُشغّل وتٶقف جينات أخرى حسب الحاجة.
وليس هذا فحسب، بل وجد الفريق البحثي المتعدد الجنسيات أن المجموعة المعروفة باسم "MER11" تلعب دوراً محورياً في عملية التحكم الجيني، وهو أمر لم يكن أحد يتوقعه بهذا الوضوح. ولأن هذه القطع من TEs تتكرر بكثرة وتتشابه فيما بينها، كان من الصعب رصد أدوراها بشكل دقيق، مما جعلها لغزاً كبيراً أمام العلماء.
تصنيف حديث يكشف أسراراً خفية
ولربط هذه النتائج بسياق تطور البحث الجيني، ابتكر العلماء طريقة جديدة لتصنيف MER11. بدلاً من الطرق التقليدية المعتمدة على قاعدة البيانات، اعتمد الفريق على مسار تطورها وتواجدها في جينومات الرئيسيات. هذا التحليل الدقيق مكّنهم من تقسيم MER11 إلى أربع مجموعات فرعية متسلسلة زمنيًا من الأقدم للأحدث، هي MER11_G1 حتى MER11_G4، وهو ما أتاح الفرصة لفحص الأدوار الوظيفية لكل فئة بشكل غير مسبوق.
هذا الاكتشاف فتح الباب لرؤية واضحة لكيفية عمل تلك العناصر. فربط التصنيف الجديد المعتمد على التطور بين تسلسل MER11 والأدوار التنظيمية على مستوى العلميات الكيميائية (ما يسمى "الإيبيجينيتيك" أو العلامات اللاجينية). تبيّن أن هذا التصنيف الحديث أكثر تعبيرًا عن وظيفة الشفرات التنظيمية مما كان سائدًا من قبل، ومكّن الباحثين من تتبع تأثير هذه العناصر على تشغيل الجينات بدقة.
وانطلاقاً من هذه النتائج، من المنطقي قياس مدى التأثير المباشر لهذه الشفرات على عمل الجينات.
تجارب مبتكرة تكشف قوة الشيفرة الفيروسية
وبالتتابع، جاء دور التجارب المخبرية. استخدم علماء البيولوجيا تقنية lentiMPRA، وهي وسيلة حديثة تسمح باختبار الآلاف من متواليات الحمض النووي في آن واحد داخل خلايا بشرية بدائية وخلايا عصبية نامية. ما يميز هذه الطريقة هو قدرتها على رصد كيف ولماذا تنشط بعض القطع من MER11، كما تقيس فعالية تلك القطع في تحفيز (أو تثبيط) الجينات المحيطة بها.
أظهرت النتائج أن المجموعة الأحدث، MER11_G4، هي صاحبة التأثير الأكثر حدة في تنشيط الجينات. ففي هذه القطع، تكمن تسلسلات جزيئية تدعى "المحركات التنظيمية" أو motifs—وهي بمثابة مواقع ارتكاز للبروتينات المعروفة بعوامل النسخ (transcription factors) التي تتحكم بزمن تشغيل الجينات. وهكذا يتضح أن الشيفرة الفيروسية القديمة تتحكم بالبيئة الجينية للبشر والشمبانزي والسعادين على نحو يترك بصمة تطورية واضح.
ومن هنا يصبح من المهم تتبع كيف تتغير هذه الشيفرات بين الأنواع، وكيف تؤدي للتمايز الجيني، بل وحتى الاختلافات السلوكية والبيولوجية بين البشر وأقربائهم من الرئيسيات. يزيد هذا التقارب بين الجينوم البشري و"الخردة" الفيروسية من فهمنا لآلية التطور على مستوى أدق بكثير، ويدفعنا لإعادة النظر في تصنيف جيناتنا ووظيفتها.
بداية جديدة لفهم "الخردة" الجينية
وعند هذه النقطة، يتضح أن هناك تحولاً في النظرة تجاه تركيب الجينوم البشري. فهواة العلوم لطالما سمعوا أن مجرد 2% فقط من الحمض النووي تصنع البروتينات، أما البقية فهي عبارة عن "ركام" وراثي. لكن دراسة طوكيو الأخيرة أكدت أن المهمشات الجينية تلك، وخصوصًا TEs مثل MER11، مرتبطة عضوياً بتنظيم الحمض النووي وقيادة ديناميكية الجينات من مرحلة الخلية الجذعية حتى نضج الخلايا العصبية.
يُشير الباحثون إلى أن الجينوم البشري لا يزال أرضاً خصبة للاكتشاف. فكلما أمعن العلماء في دراسة المناطق المهمشة والغامضة ودمجوا التقنية الحديثة برؤية جديدة للتطور الجيني، انكشفت أسرار لم تكن تخطر على بال. لعل المستقبل يحمل مفاجآت أكبر عندما تُحل شفرة "DNA الخردة" تماماً– فمن يدري أي مفاتيح تشغّل أو توقف مصابيح الحياة في أجسامنا؟
خلاصة القول: تُظهر هذه الاكتشافات أن اللغة الجينية أكثر غموضًا وثراءً مما اعتُقد سابقًا، وأن ما وصفناه يوماً بالخردة قد يكون مفتاح تجددنا البيولوجي وتطورنا كنوع. ربما كان من الأنسب استخدام تعبير "الشيفرة الساحرة" بدلاً من "الخردة"، أو الإشارة بوضوح أكبر إلى خصوصية كل مجموعة جينية. كما أن ربط الفقرات بجملة انتقالية أقوى كان سيجعل تدفق القراءة أسلس، فالخوض عميقًا في روابط الجينوم والإيبيجينيتيك يستحق وصفًا يليق بالإكتشاف الفريد.