سمكة بطول 12 ملم تصرخ بقوة طائرة: 140 ديسيبل من أعماق الماء

4 د
سمكة دانيو نيلا تصدر أصواتًا تضاهي هدير الطائرة رغم حجمها الصغير جدًا.
الصوت الناتج يصل إلى 140 ديسيبل، وهو أعلى من الحد الآمن للسمع البشري.
تستخدم السمكة عضلة قوية لتحريك الضلع بسرعة نحو المثانة الهوائية لإصدار الصوت.
الأصوات قد تلعب دورًا في التنافس بين الذكور لجذب الإناث أو لتحديد النفوذ.
شفافية جسم السمكة تجعلها نموذجًا مثاليًا لدراسة الجهاز العصبي.
تخيل أنك تقترب من جدول مائي صغير في غابات ميانمار، وفجأة، تسمع صوتاً يُشبه طنين الطائرة أو هدير فيل... لكن مصدره ليس سوى سمكة لا يتجاوز طولها 12 ملم! هذا ليس خيالاً علمياً، بل حقيقة اكتشفها العلماء مؤخراً عن سمكة دانيو نيلا سيريبريوم، الكائن المائي الشفاف الذي قلب مفاهيمنا عن عالم الأصوات والاتصال تحت الماء.
يشبه الأمر قصة كشف لغز غامض حين أثار الدوي الذي يتكون حول أحواض الأسماك في المختبر دهشة العلماء، إذ لم يكن يخطر ببالهم أن بطلاً بهذا الصغر يمتلك قدرات صوتية تفوق توقعاتهم. وصف العلماء صوت الدانيو نيلا بأنه يمكن أن يصل إلى 140 ديسيبل، أي أعلى من الحد الآمن للسمع البشري، ويفوق صوت فيل يزمجر أو حتى طائرة عند الإقلاع على مسافة متوسطة. هذا يجعل هذه السمكة الصغيرة واحدة من أكثر الكائنات إثارة للدهشة عندما يتعلق الأمر بإصدار الأصوات.
أسرار العضلات و"الكشفية" البيولوجية
ما أول ما خطر ببالك عند الحديث عن الأسماك والأصوات؟ أغلب الناس يتصورون فقاعات أو حركات هادئة بالكاد تُسمَع، لكن دانيو نيلا غيرت الصورة تماماً. فقد اكتشف العلماء الألمان عبر تصوير الفيديو فائق السرعة أن هذه الأصوات ليست عبثية، بل هي صادرة عن قَرن غضروفي خاص في جسم السمكة، حيث تقوم عضلة صغيرة وجدوا أنها أقوى من عضلات كثيرة بما يجعلها قادرة على تحريك أحد الضلوع بسرعة هائلة نحو المثانة الهوائية ثم إطلاقه فجأة. عندما يصطدم هذا الضلع بالغشاء الهوائي الداخلي، ينتج صوت "قرع" عال أشبه بضرب طبلة ضخمة.
وهذه الآلية الفيزيولوجية المدهشة دفعتهم لتحليل الجينات المتعلقة بتلك العضلة، ليجدوا أنها تتحمل الإجهاد وتعمل لساعات بلا كلل. هذه القدرة الفريدة تجعل صوت السمكة متقطعاً وسريعاً ومتتالياً، الأمر الذي يثير تساؤلات حول مغزى تطوره. ولعل هذه التفاصيل تُبيّن لنا كيف تتجلى الدقة والتخصص في عالم الأحياء حتى في التفاصيل الصغيرة، ما يربط بسلوكيات أسماك أخرى مثل الدرام السوداء أو أسماك "الميد شيبمان" التي اشتهرت بصوتها العالي، ولو أنها أقل حدة من سمكة دانيو نيلا المثيرة.
الحديث عن أصوات هذه السمكة يأخذنا مرة أخرى إلى الفارق بين الذكر والأنثى، فحسب ما لاحظه الباحثون، الذكور فقط هم القادرون على إصدار هذه الأصوات، بل وتظهر لديهم عظام أكثر صلابة مهيأة للقرع لإخراج الصوت، ويفترض العلماء أن للأصوات دوراً في التنافس لجذب الإناث أو رسم حدود النفوذ بين الذكور.
خفايا بيئية وسلوكية: لماذا تُدَوِّي السمكة؟
ما إن نفكر في البيئة التي تعيش فيها دانيو نيلا، حتى يظهر احتمال أن تكون الأصوات وسيلة للاتصال في المياه المُعَكَّرة، حيث يصعب الرؤية. ويذهب البعض للاعتقاد أن ما يجري هو "منافسة صوتية" بين الذكور للسيطرة على الإناث أو لفرض منطقة نفوذ. وقد لاحظ العلماء في التجارب أن مجموعة الذكور عند وضعهم معاً يظهر بينهم تسلسل هرمي صوتي؛ لا يصدر الأصوات بقوة إلا من هم في القمة، بينما يلتزم الآخرون الصمت — تماماً كما يحدث مع بعض الطيور المغردة أو الثدييات الكبيرة.
هذا الخيط الرفيع بين التواصل والمنافسة في عالم الحيوان يظهر جلياً في هذه التجربة الدقيقة. ومن المثير أن "دانيو نيلا" لم تكتسب شهرتها فقط بفضل أصواتها، بل أيضاً بسبب مخها الشفاف والصغير جداً، حتى أن العلماء يستخدمونها كنموذج مثالي لدراسة الجهاز العصبي، نظراً لأن شفافية جسمها وعدم وجود جمجمة تجعل التصوير والدراسة في منتهى السهولة.
وينضم لهذه الخلطة عامل التشويق العلمي، فحتى العام 2021، كان العلماء يدرسون هذه السمكة تحت اسم مجهول دون أن يدركوا أنهم أمام نوع جديد لم يسبق وصفه علمياً، إلى أن أطلقوا عليها اسم "سيريبريوم"، أي "دماغ"، تقديراً لقيمتها في فهم أسرار علم الأعصاب.
في ضوء كل ما سبق، من المهم للقارئ أن يتأمل مدى التنوع والابتكار الذي تحويه الطبيعة. ربما يجدر لو استبدلنا كلمة "أصغر" بـ"أكثر براعة" في وصف هذه الأسماك، أو شددنا أكثر على فكرة أن الأصوات وسيلة معقدة للتواصل وليس مجرد ضجيج عشوائي. ولعل إضافة جملة تربط بين مقاصد الدراسة واستكشاف العلاقات الاجتماعية بين الأسماك يُثري مدى ارتباط هذا البحث العلمي بحياتنا وفهمنا للكوكب. بهذه الاكتشافات، يتضح أن للمحيطات والأنهار مفاجآت صوتية ونفسية ساحرة لم نعرفها من قبل.