ذكاء اصطناعي

سمكة غريبة تكشف أسرار دماغها كأنها من كوكب آخر!

محمد كمال
محمد كمال

4 د

التقطت الكاميرات صورًا لسمكة برأس شفاف تثير الفضول العلمي.

تعيش سمكة العيون البرميلية في أعماق المحيط بعيون خضراء أسطوانية.

يستخدم الرأس الشفاف لحماية العيون من لسعات قناديل البحر بتفاصيل مذهلة.

اكتشاف هذه السمكة يُلهم الابتكار في مجالات التكنولوجيا والبحث العلمي تحت البحر.

توثيق السمكة يُعمّق فهم التنوع البيولوجي في منطقة منتصف الليل بالمحيط.

في مشهد أقرب لأساطير الخيال العلمي، التقطت الكاميرات مؤخراً صوراً لمخلوق أعماق بحري غريب برأس شفاف بالكامل، أثار دهشة العلماء وأشعل الفضول بين عشاق عالم المخلوقات الغامضة.

تخيل أنك تبحر في أعماق المحيط الهادئ حيث لا تصل أي أشعة ضوء، وتكتشف هناك مخلوقاً يُدعى “سمكة العيون البرميلية” أو علمياً Macropinna microstoma. هذه السمكة لا يزيد طولها عن 15 سنتيمترًا، لكنها فريدة بخاصية مذهلة: رأسها عبارة عن قبة شفافة مليئة بالسائل يسبح بداخلها زوج من العيون الأسطوانية الخضراء. شوهدت هذه السمكة لأول مرة عام 1939، وبقيت تفاصيلها غامضة عقوداً طويلة بسبب هشاشتها. لكن في عام 2009 نجح فريق من معهد خليج مونتيري للأبحاث بأمريكا في تصويرها حية لأول مرة باستخدام غواصة عميقة التحكم عن بعد، ليكشفوا أخيراً أسرار بنيتها وحركتها الاستثنائية.

ولأنك ربما تتساءل عن جدوى هذه التركيبة الفريدة، إليك التفاصيل: الأعماق التي تعيش فيها السمكة، على عمق يتراوح بين 600 و800 متر، عبارة عن عالم بلا شمس تقريبًا، تسوده عتمة تامة وبرودة شديدة. لذا طورت العيون البرميلية نظامًا بصريًا فريدًا يمكنها من التقاط أقل إشارات الضوء القادم من طحالب مضيئة أو قناديل بحر. كانت الأبحاث القديمة تظن أن هذه العيون لا ترى إلا للأعلى، لكن الفيديو الذي التقط عام 2009 بيّن أنها قادرة على التدوير للأمام أيضاً، وبذلك تتمكن السمكة من تتبع طعامها من عدة اتجاهات دون الحاجة للحركة المستمرة، مستفيدة من بنيتها الشفافة التي تخفيها عن الكائنات المفترسة.


سر الشفافية والحماية في الرأس العجيب

ما يربط خصوصية رأس السمكة بالوسط الذي تعيش فيه هو أن قبتها الشفافة المملوءة بالسائل تؤدي وظيفة مزدوجة: فهي تجعل عيونها شديدة الحساسية آمنة من لسعات قناديل البحر أثناء بحثها عن الطعام، كما تساعدها في الاندماج مع الظلام الدامس من حولها، بما يشبه إلى حد كبير سترات التمويه الأسطورية. وتشبه هذه الخدعة الطبيعية ما طورته مخلوقات بحرية أخرى مثل الحبار الزجاجي والضفدع الزجاجي اللذان طوّرا بدورهما أجساماً شفافة لتفادي الأعداء.

وهذا يفتح الباب أمام تساؤلات كثيرة حول كيف استطاعت مخلوقات الأعماق أن تطوّر طرقاً مذهلة للبقاء، إذ أصبحت الشفافية، والقدرة على التقاط اللمعان الخافت، والتخفي، أدوات للنجاة في بيئة تشمل ضغط المياه الهائل وقلة مصادر الغذاء وأخطار الافتراس. ومن هنا تبرز سمكة العيون البرميلية كبطلة هذه الأعماق المظلمة، حيث يقوم رأسها الشفاف بدور الخوذة العجيبة التي لا نجد لها مثيلاً إلا في أكثر أفلام الفضاء جنوناً.

وإذا ربطنا ذلك بمسار فهم العلماء المتدرج لهذا الكائن المحير، سنجد أن معظم العينات التي أُحضرت إلى السطح فقدت شفافية الرأس بسبب فارق الضغط الهائل، وظل أصل بنية الرأس بمثابة لغز حتى نجح التصوير المباشر في بيئتها الأصلية بالكشف عن كل هذه التفاصيل الدقيقة. ومن الطريف أن عملية إحضارها إلى سطح السفينة تحت ضغط مماثل لعمقها سمحت بفحصها على قيد الحياة لبضع ساعات، وهو ما كان حلمًا بعيد المنال في الأبحاث السابقة.


فرص وأسرار مستقبلية وراء الرأس الشفاف

ولأن الابتكار لا يتوقف عند حدود العلم الطبيعي، يستلهم خبراء التقنية من هذا المخلوق أفكارًا جديدة: فآلية تصفية الضوء داخل العيون البرميلية وبنية القبّة المائعة قد تلهم تطوير عدسات أو دروع شفافة لتحمل ضغط الأعماق في غواصات المستقبل أو الروبوتات البحرية. كما يبحث المهندسون في إمكانية استنساخ التوازن الداخلي للسمكة لحماية المعدات الدقيقة في البيئات القاسية.

وهذا يقودنا لمغزى اكتشافات كهذه: ما زال الجزء الأكبر من أعماق محيطاتنا أرضاً مجهولة، ورحلات الاستكشاف الحديثة تثبت أن كل اكتشاف يطرح المزيد من الأسئلة الجديدة. ومن المذهل أن سمكة العيون البرميلية ليست سوى مثال واحد لمئات الكائنات ذات القدرات الخارقة، التي إذا فهمناها جيدًا قد نعيد تشكيل الكثير من صناعات المستقبل.


رحلة الاستكشاف نحو الأعماق مستمرة

إذا دققنا في سجل رصد هذه السمكة، سنكتشف أنها شوهدت أساساً في شمال المحيط الهادئ بين بحر بيرنغ والسواحل اليابانية وولاية كاليفورنيا، وتبقى نادرة أو يصعب تعقّبها نظراً لصعوبة الوصول لتلك الأعماق وندرة المشاهدات الحية. لهذا فإن كل توثيق جديد يمدنا برحلة جديدة نحو فهم التنوع البيولوجي الهائل داخل ما يُعرف بمنطقة “منطقة منتصف الليل” في المحيط.

ذو صلة

رغم كل هذه المفاجآت، لا تزال تفاصيل كثيرة مطمورة عن طريقة تكاثر هذه السمكة، دورة حياتها الكاملة وعلاقتها ببقية السلسلة الغذائية. ولهذا يستمر العلماء في استكشاف الأسرار، ويأملون في أن تقود هذه الكائنات العجيبة العالم بأسره لتقدير أعماق البحار وحمايتها من الأخطار البيئية.

ختاماً، تبرز سمكة العيون البرميلية كرمز حي لمقولة “أن أغرب الكائنات على هذا الكوكب لم تُكتشف كلها بعد”. ففي الوقت الذي نستكشف فيه الكواكب الأخرى بحثًا عن حياة غريبة، تذكّرنا هذه السمكة أن المجهول المثير ينتظرنا أيضاً على بُعد آلاف الأمتار في أعماق محيطاتنا.

ذو صلة