طفرة صينية في تعديل الكروموسومات بدقة غير مسبوقة تفتح آفاقًا جديدة للهندسة الوراثية

4 د
مجموعة بحثية صينية تحقق طفرة في تعديل الكروموسومات بدقة غير مسبوقة.
تم تطوير تقنيات جديدة تتيح تعديلات وراثية دقيقة في الحمض النووي.
حقق الفريق إنجازات غير مسبوقة في تقنيات الهندسة الوراثية للنباتات والحيوانات.
الأرز أصبح أكثر مقاومة للمبيدات بعد إجراء تعديلات جينية دقيقة.
التكنولوجيا الجديدة تفتح آفاقًا لتطوير محاصيل مقاومة للأمراض دون آثار جانبية.
هل يمكن تصور تعديل أجزاء ضخمة من الشيفرة الوراثية لكائن حي، دون ترك أي أثر أو خطأ واحد؟ لم يعد ذلك ضربًا من الخيال العلمي، بعدما نجح فريق بحثي دولي بقيادة البروفيسور Gao Caixia من معهد الوراثة وعلم الأحياء التطوري التابع للأكاديمية الصينية للعلوم، في تطوير تقنيتين ثوريتين تمنحان الباحثين قدرة غير مسبوقة على هندسة الكروموسومات بكفاءة ووضوح مذهلين.
في قلب هذا الإنجاز العلمي نجد منصتين جديدتين سمتا بـ “الهندسة الكروموسومية القابلة للبرمجة” (Programmable Chromosome Engineering أو PCE). وتقول الدراسة المنشورة في مجلة Cell إن التقنيتين المستحدثتين تتيحان تنفيذ تعديلات وراثية دقيقة على نطاق واسع في الحمض النووي، وتشمل عمليات كبرى مثل الانعكاس (عكس اتجاه جزء من الكروموسوم)، الإزاحة (حذف قطع ضخمة)، والإدراج (إضافة تسلسلات وراثية طويلة) والعمل في كل من النباتات والحيوانات.
ما يربط هذه التقنيات الفريدة بمشاريع الهندسة الوراثية اليوم، هو رغبة العلماء في تجاوز حدود التعديل الجيني التقليدي الذي كان محصورًا في مناطق صغيرة من الجينوم أو يعاني من آثار جانبية شائعة وغير دقيقة. في السابق، كانت تقنية “كري-لوكس” طموحة لكنها محدودة بثلاث مشكلات أساسية: صعوبة تعديل مواقع إعادة التركيب الجيني، خطر حدوث تغييرات عكسية غير مرغوبة، وضعف كفاءة الأداة الإنزيمية المستخدمة. لكن الفريق الصيني قلب الموازين لصالح التكنولوجيا بإيجاد حلول مبتكرة لكل عقبة.
كيف تجاوز الباحثون أكبر العقبات؟
لفهم أهمية هذه الخطوة، من المفيد العودة إلى جذور مشكلة تقنيات التعديل الوراثي التقليدية مثل النظام الشهير “كري-لوكس” (Cre-Lox). كان العلماء يعتمدون عليه لتحقيق تغييرات دقيقة في الشيفرة الجينية ولكن سرعان ما واجهتهم عدة تحديات، أبرزها صعوبة التحكم باتجاه التعديلات وخطر تراجعها نحو الوراء موظفة نفس الإنزيمات، ما يؤثر على الاستقرار الجيني المطلوب.
وللتغلب على ذلك، قام العلماء بتصميم مواقع Lox غير متماثلة تقلل النشاط الرجعي بمقدار عشرة أضعاف من دون المساس بكفاءة عمليات التعديل إلى الأمام. كما أدخلوا الذكاء الاصطناعي إلى قلب العملية لاختيار وتطوير إنزيمات معدلة (recombinases) أكثر كفاءة وموثوقية من الطبيعي، وذلك عبر منصة جديدة سموها AiCE-rec. وبهذا أصبح بإمكانهم تحقيق تغيير بنيوي في الكروموسومات لم يكن ممكنًا من قبل، وبصورة تجعل احتمالية ظهور الأخطاء العشوائية شبه معدومة.
انطلاقًا من هذه القفزة التقنية، تفتح الهندسة الكروموسومية القابلة للبرمجة الباب واسعًا أمام إجراء تعديلات ضخمة تشمل حذف أو إدراج أو عكس أجزاء تتجاوز في كثير من الأحيان عشرات آلاف القواعد الوراثية دفعة واحدة. ويعود ذلك إلى التكامل الذكي بين التصميم الجزيئي وذكاء الآلة، الأمر الذي جعل هذه الإنجازات قابلة للتكرار، بل والتطبيق على محاصيل الغذاء.
وهنا يمكننا أن نلمس ارتباط هذا الابتكار بحقول الزراعة الحديثة، إذ أصبح بالإمكان هندسة محاصيل تقاوم الأمراض أو مبيدات معينة من خلال تعديلات دقيقة وكبيرة في بنيتها الجينية، دون ترك علامات أو “ندبات” وراثية قد تثير مخاوف دوائر السلامة الحيوية أو المستهلكين.
تطبيق مثير في الأرز: صمود في وجه المبيدات بلمسة جينية دقيقة
لإثبات فعالية النهج الجديد، اختار الفريق الصيني تطبيق تقنيته على الأرز، أحد أكثر المحاصيل الاستراتيجية على مستوى العالم. تمكن العلماء من تنفيذ انعكاس دقيق لجزء يمتد 315 ألف قاعدة جينية ضمن كروموسوم الأرز، وهي مهمة كان من شبه المستحيل تحقيقها بهذه الدقة سابقًا. نتيجة لذلك، اكتسب الأرز حصانة غير مسبوقة ضد مبيدات الأعشاب – دون التسبب في آثار جانبية جينية – ما يتيح للأمن الغذائي العالمي نافذة تفاؤل، خاصة في ظل تغير المناخ وزيادة الطلب على الغذاء الصحي والمستدام.
وتتضافر مع هذا النجاح العملي قائمة من المصطلحات الجينية الهامة التي تتردد في أروقة المختبرات اليوم: التحرير الدقيق للحمض النووي (DNA precise editing)، هندسة البروتينات الإنزيمية، مواقع إعادة التركيب، المحررات البديلة (Prime editors)، تسلسل القواعد النوكليوتيدية، تقنيات البرمجة الوراثية، الانتقاء الاصطناعي، تكنولوجيا الاستنساخ، ونقل الجينات على نطاق ميغابايت. انتشار هذه المفردات في النقاشات العلمية يعكس وحدة دلالية زاخرة حول الثورة الجينية في العصر الحديث.
ومع هذا الدليل العملي في الأرز، يتضح كيف يمكن لتقنيات PCE وRePCE أن تحدث تغييرًا حقيقيًا في مشاريع تحسين المحاصيل الزراعية، أينما توفرت البنية التحتية اللازمة.
آفاق واسعة ومستقبل وهّاج للهندسة الجينية
وبرغم سقوط القيود التقليدية على التعديل الوراثي، ينبه العديد من العلماء إلى أهمية الاستخدام المسؤول والمحكم لهذه الأدوات، شأن أي تقنية ثورية. فبينما تفتح الأنظمة الجديدة المجال أمام علاج أمراض وراثية مستعصية وتطوير نباتات وحيوانات أكثر صمودًا وتحملًا للظروف القاسية، تبقى الحاجة قائمة لضمان الأمان الجينومي والتقييم العميق قبل الانتقال للتطبيقات البشرية.
إن كنت من المهتمين بهذا القطاع أو يتملكك الفضول لمعرفة مستقبل الزراعة، برأيي يمكنك استبدال تعبير “الهندسة الكروموسومية القابلة للبرمجة” أحيانًا بـ“الهندسة الوراثية الدقيقة” لزيادة وضوح النص للعامة. كما أن التضييق على الصياغة التخصصية في بعض المقاطع أو إضافة جملة ربط بين أهمية الذكاء الاصطناعي ونمو أدوات التعديل الجيني قد يمنح القارئ زاوية أكثر شمولية.
في النهاية، يبدو أن فصلًا جديدًا يُكتب اليوم في سجل الهندسة الحيوية، حيث أصبح تعديل الجينوم بدقة هائلة—وبلا آثار جانبية تقريبًا—ممكناً. كل ذلك قد يغير طريقة عمل العلماء مع النباتات والحيوانات وحتى البشر في المستقبل، ويفتح أفقًا لم يكن في المتصور حتى وقت قريب.