ذكاء اصطناعي

ظاهرة التطور العكسي في جزر غالاباغوس: هل تعيد الطماطم كتابة تاريخها الوراثي؟

محمد كمال
محمد كمال

3 د

تظهر نباتات الطماطم في جزر غالاباغوس ظاهرة "التطور العكسي" بإنتاج مركبات دفاعية قديمة.

الأبحاث من جامعة كاليفورنيا تجد أن الظروف البيئية تؤثر على التركيبة الكيميائية للنباتات.

تغييرات بسيطة في الأحماض الأمينية تؤدي إلى تحولات بيوكيميائية كبيرة.

الباحثون يرون إمكانات لتطبيق هذه التحولات في التكنولوجيا الحيوية والزراعة المستدامة.

الدراسة تعكس مرونة الحياة وتعيد صياغة فهمنا لعملية التطور.

هل تصدّق أن نباتات الطماطم في الوقت الحالي ربما تسير عكس اتجاه التطور؟ هذه ليست قصة خيالية، بل هي ظاهرة علمية تم رصدها مؤخرًا في جزر غالاباغوس البركانية والتي أثارت دهشة الباحثين بشكل واسع.

في بحث علمي نشرته جامعة كاليفورنيا، ريفرسايد مؤخرًا في مجلة نيتشر كومينيكيشنز الشهيرة، اكتشف العلماء أن بعض نباتات الطماطم البرية في الجزر تعود لإنتاج مركبات كيميائية دفاعية قديمة تخلى عنها هذا النبات منذ ملايين السنين، في ظاهرة يسمّيها الباحثون بـ"التطور العكسي".


الطماطم تعود للماضي... ولكن كيف؟

الطماطم الحديثة التي نعرفها اليوم هي في الأصل نباتات انتقلت منذ ملايين السنين من أمريكا الجنوبية بواسطة الطيور. لكن في بعض الجزر الغربية البركانية اليافعة ضمن أرخبيل غالاباغوس، لوحظ أن هذه النباتات بدأت فجأة بإنتاج مركبات كيميائية مشابهة لتلك الموجودة في نبات الباذنجان، وهي مركبات تسمى بالقلويدات أو "الألكالويد". وتستخدم النباتات هذه المواد كمبيدات طبيعية دفاعية ضد الحشرات والكائنات الضارة.

هذه المركبات الكيميائية القديمة، التي توقفت نباتات الطماطم الحديثة عن إنتاجها منذ زمن طويل، عادت مرة أخرى، مما أثار دهشة الباحثين. بل إن بعض النباتات في الجزر الأكثر استقرارًا وتنوعًا شرقي الأرخبيل تستمر في إنتاج المركبات الحديثة فقط، ما يدل على وجود علاقة قوية بين الظروف البيئية والتركيبة الكيميائية للنبات.

لفهم هذا التغير، ركز العلماء على إنزيمات مسؤولة عن صناعة هذه المركبات. اكتشفوا أن مجرد تغيير أربعة أحماض أمينية في إنزيم واحد يجعل النبتة تغيّر نوع المركب المُنتَج من طابعه الحديث إلى قديم. هذا بحد ذاته كشف مذهل في علم الكيمياء الحيوية، إذ يعني أن تغييرات بسيطة في البنية الجينية قد تؤدي إلى نتائج تطورية وبيوكيميائية كبيرة جدًا.

وهذا التواصل المباشر الذي تمكن الفريق من إحداثه في المعمل، بتعديل الجينات المنتجة لهذه الإنزيمات وإدخالها في نباتات التبغ، منح الدراسة مزيدًا من القوة، حيث عادت نباتات التبغ لإنتاج المركب القديم أيضًا.

وهذا ما يربط العلم بفرضيات كبرى مثل علاقة البيئة بالتطور، إذ يعتقد العلماء أن طبيعة الجزر الغربية القاسية ربما استوجبت عودة إنتاج هذه الكيميائيات القديمة لمقاومة الظروف القاسية هناك.

وفي حديثه عن هذه الظاهرة، قال الباحث آدم جوزويك من جامعة كاليفورنيا: "بعض الأشخاص قد لا يُصدقون فكرة التطور العكسي. لكنها حدثت بالفعل هناك، مع وجود دليل جيني وكيميائي واضح".

لا يقتصر الأمر على النباتات فقط، بل إن هذه النتائج ترفع من احتمالية حدوث أمر مشابه لدى كائنات أخرى، بحسب الباحثين. ويضيف جوزويك متأملًا: "من المحتمل أن يحدث مثل هذا التحول لدى البشر أيضًا، إذا تغيرت الظروف البيئية بشكل جوهري على مدى زمني طويل".

ومن ناحية التطبيقات العلمية، يرى العلماء أن فهم مثل هذه التحولات يمكن أن يلعب دورًا في مجال التكنولوجيا الحيوية، من خلال تصنيع أدوية جديدة أو إنتاج محاصيل معدلة أكثر أمانًا لصحة الإنسان، بتقليل المركبات الكيميائية السامة في الأطعمة التي نتناولها.

ذو صلة

الآن، يبدو أن هذه الدراسة تُضيف عمقًا جديدًا لفهمنا لعملية التطور وتذكّرنا بمرونة الحياة وكيميائها المدهشة. في المستقبل، يمكن للدراسات اللاحقة توضيح تفاصيل أخرى في هذه العملية، خصوصًا عن السبب الدقيق وراء عودة الطماطم لإنتاج هذه المركبات القديمة.

ختامًا، يمكن القول إن الطبيعة مستعدة دائمًا لمفاجأتنا. فهي تثبت لنا بشكل مستمر أن التطور ليس خطًا مستقيمًا كما كنا نظن، بل يبدو أحيانًا وكأنه دائرة يُعاد فيها إحياء ملامح قديمة سبق أن اختفت تمامًا، وتعطينا هذه الدراسات العلمية تفاصيل مذهلة يمكنها أن تغير الطريقة التي ننظر بها إلى الحياة من حولنا. ولعل استخدام بعض الكلمات الأكثر إيضاحًا، مثل اختيار كلمة "عودة" بدلًا من "تراجع"، أو تعميق الربط بين أفكار البيولوجيا والكيمياء سيساعد مستقبلًا في بناء صورة أكثر تكاملًا لهذه الظاهرة العلمية المدهشة.

ذو صلة