علماء يحوّلون رياضيات مهملة إلى إنجاز كمومي غير مسبوق

4 د
استطاع علماء الرياضيات والفيزياء في جامعة جنوب كاليفورنيا تحويل نفايات رياضية إلى مفتاح لحل الحوسبة الكمومية.
الكمبيوترات الكمومية تسعى لتخطي حدود الحواسب التقليدية باستخدام الكيوبتات القادرة على التراكب.
الأنيونات تقدم حلاً محتملاً لتخزين المعلومات الكمومية بدل الكيوبتات التقليدية الهشة.
نظريات جديدة قد تمكن استخدام "نيغليكتون" مع أنيونات إيسينج لتحقيق الحوسبة الكمومية الشاملة.
البحث يفتح باباً لاختبارات جديدة في المختبرات للتأكد من جدوى هذه النظريات عملياً.
تخيّل لو أن مجموعة من علماء الرياضيات والفيزياء حولوا ما كان يُعتبر نفايات رياضية عديمة القيمة إلى مفتاح لحل أكبر مشاكل الحوسبة الكمومية، هذا بالضبط ما حدث في جامعة جنوب كاليفورنيا الأمريكية. فبينما كان كثيرون يعتقدون أن معادلات وقطعاً من الرياضيات لا تصلح للاستخدام العملي، عاد فريق بحثي لاكتشافها بعين جديدة ليطلقوا ما يشبه ثورة صامتة في عالم الكوانتم.
الأمل الكبير الذي يراهن عليه العلماء حول العالم هو بناء كمبيوترات كمومية تستطيع إنجاز عمليات حسابية خارقة تفوق أقوى الحواسب التقليدية بمراحل. في صلب هذه التقنية، نجد “الكيوبتات”، وهي وحدات المعلومات الكمومية القادرة على تخزين بيانات بصيغ متداخلة عديدة بفضل ميزة التراكب الكمومي. هذا يعني أنه ليس عليها أن تختار وضعية رقمية واحدة (صفراً أو واحداً) مثلما هو حال البتات الثنائية الكلاسيكية، بل يمكنها أن تكون في حالات عديدة في الوقت نفسه، ما يفتح آفاقاً واسعة للتشفير والحساب السريع.
ومع ذلك، تظل العقبة الأكبر أمام الحوسبة الكمومية هي هشاشتها الشديدة. يمكن لأصغر الأضطرابات البيئية، مثل الذبذبات الحرارية أو التشويش المغناطيسي، أن تفسد النتائج وتجعل أي حساب معتمد على الكيوبتات عُرضة للأخطاء المتراكمة. لهذا تنصب جهود كبيرة على تطوير وسائل تصحيح الأخطاء الكمومية، وكان أبرزها الاتجاه نحو “الحوسبة الكمومية الطوبولوجية” المعتمدة على الجوانب الهندسية العميقة لمكوناتها.
جسيمات “الأنيونات” والمنعطف الرياضي الحاسم
في هذا السياق، تبرز الأنيونات كجسيمات كمومية غريبة تنبأ بها العلماء في فيزياء الأنظمة ثنائية الأبعاد. الأنيونات لها خصائص فريدة تجعلها مقاومة نسبياً للضجيج البيئي، لذا، يرى كثير من الباحثين أنها قد تكون وسيلة مثالية لترميز المعلومات الكمومية بدلا من الكيوبتات الهشة التقليدية. نموذجياً، يسيطر نوع خاص يُسمى “أنيونات إيسينج” على محاولات بناء الحواسيب الكمية الطوبولوجية. لكن الإشكال أن قدراتها محدودة، فلا يمكن استغلالها وحدها لصناعة كمبيوتر كمومي شامل وقادر على تنفيذ جميع العمليات (أي تحقيق ما يسمى “الحوسبة الكمومية الشاملة”).
وهنا تظهر اللمحة التي ربطت المسارين، فقد لاحظ الباحثون أن براعم الحل تكمن في نقل نظرية الأنيونات من إطارٍ رياضي تقليدي يُسمى “الإطار نصف البسيط” إلى نظرية أوسع اسمها “النظرية الكمومية الطوبولوجية غير نصف البسيطة”. غالباً ما كان العلماء يرمون أجزاءً من الحلول الرياضية تُدعى “العناصر صفرية الأثر الكمومي” باعتبارها بلا فائدة عملية، لكن الفريق الأمريكي نبش في هذه “المهملات” ليبتكر مفهوماً جديداً حمل اسم “نيغليكتون” (Neglecton)، وتعني بتعبير بسيط: الجسيم الذي أهمله الجميع.
وهذا الاكتشاف يرتبط تماما بمسألة بناء كمبيوتر كمومي شامل، فالمعادلات تقدِّم الآن طريقة جديدة لاستخدام “نيغليكتون واحد” بشكل ثابت، بينما تتحرك حوله أنيونات إيسينج لتُنجز جميع عمليات الربط الكمومي اللازمة.
حلول ذكية لمشكلات رياضية معقدة
المضي في هذا الاتجاه لم يكن خالياً من التعقيدات؛ تطبيق الإطار غير نصف البسيط يرافقه دوماً “انحرافات” رياضية تهدد بإفساد قواعد الاحتمالات الأساسية للفيزياء الكمومية. لكن الابتكار في هذا البحث تجلى في توظيف رمز ترميز كمومي يمكنه “تأهيل” الحساب بحيث تترك هذه الانحرافات مناطق الحوسبة سليمة قدر الإمكان. وقد وصف أحد المشاركين الأمر بصورة مبسطة فقال: تخيل كمبيوترك في بيت به غرف غير مستقرة، الحل ليس ترميم الجميع لكن ببساطة نقل كل عملياتك إلى الغرف التي لا تهتز.
من هنا يمكن ربط هذه الفكرة بمحاولات علماء الفيزياء التجريبية الذين سيكلفهم الأمر تحدي اختبار وجود نيغليكتون فعلاً، وكيف سيمكن دمجه واقعياً في نماذج الحوسبة الكمومية الطوبولوجية لأخذ هذه النظرية من الورق إلى المختبرات.
وفي هذا الصدد، تبرز أهمية العمل الجماعي بين المنظرين من علماء الرياضيات والتطبيقيين من الفيزيائيين، فاختراق كهذا قد يغير خريطة الحوسبة كلياً، شريطة إثبات أن النياغليكتون ليس مجرد اصطلاح رياضي بل جسيم قابل للاختبار والضبط.
تجدر الإشارة إلى أن تفاصيل البحث المنشور في مجلة Nature Communications تحفز الآن حركة بحثية أوسع حول العالم، حيث بدأ المتخصصون بإعادة تقييم جدواهم من “الرياضيات المهملة” وما قد تحمله من مفاتيح مستبعدة في طياتها.
ومع بروز هذا النمط من التفكير النقدي يتضح لنا كيف أن التشبث بمفردات قوية كـ“الإطار غير نصف البسيط” أو “تصحيح الأخطاء الطوبولوجي” يمنح المقال دسامة علمية، ولكن قد يكون من المفيد أحياناً استخدام كلمة “حوسبة كمومية معممة” بدل “شاملة” لإضفاء دقة إضافية، أو وضع جملة ربط أكثر وضوحاً بين خطوات الفريق النظري وتجارب المختبر. في كل الأحوال، مشوار الحوسبة الكمية إلى العموم بات أقرب مع كل فتات رياضي يُكتشف من جديد.