فرضية النسخة المعكوسة للكون: هل حقاً تختلف عن عالمنا الحالي!؟

3 د
تُظهر الكيرالية كيف يختلف الكون الحقيقي عن صورة المرآة المعكوسة.
يُستخدم السكر اللاكتوز بشكل حصري في نسخة الكيرالية اليمنى لدى الكائنات الحية.
اكتشف باستور أن الجزيئات الكيرالية يمكن أن تؤدي وظائف كيميائية مختلفة.
القوة النووية تؤثر على الجسيمات اليسرى فقط دون اليمنى.
الفيزيائيون لم يرصدوا سوى النيوترينو اليسرى ويسعون لوجود الشق اليمن.
هل تخيلت يوماً أنك تعبر إلى عالم آخر عبر المرآة، تماماً كما فعلت "أليس" في قصة "عبر المرآة" الشهيرة التي كتبها لويس كارول؟ ربما تبدو الفكرة خيالية، لكننا إذا فكرنا بشكل علمي، سنكتشف أن كوننا بالفعل يختلف كثيراً عن صورته المنعكسة في المرآة.
تُسمى الأشياء التي تختلف تمامًا عما نراها في المرآة "الكيرالية" (chiral)، وهو مصطلح مشتق من الكلمة اليونانية "كير" ويعني "يد"، فأيدينا نفسها هي أفضل مثال على ذلك. إذا حاولت مصافحة يدك في المرآة، لن تستطيع مضاهاة يدك الحقيقة بتلك المعكوسة؛ فاليد اليمنى تصبح يسرى في الانعكاس، ولا مجال أبداً لتطابقهما. لكن الكيرالية أو "اللاتناظر" ليست مجرد ظاهرة ترفيهية؛ بل تعمق العلماء بدراستها ليكتشفوا أن هذه الخاصية تلعب دوراً أساسياً في كل ما يُحيط بنا بدءًا من عالم الأحياء وصولًا لفيزياء الجسيمات الأساسية.
وبالعودة لأليس، كانت تتساءل، بشكل عفوي مرح، عن طعم الحليب في ذلك العالم البديل، وعلقت قائلةً: "ربما حليب المرآة ليس صالحاً للشرب". تماماً كما توقعت أليس، فالحليب يحتوي على نوع من السكر يُسمى "اللاكتوز"، وهو من الجزيئات الكيرالية التي تبرز في صورتين، واحدة يمنى وأخرى يسرى. لكن المفاجأة هي أن أجسام الكائنات الحية تستخدم دوماً الصورة اليمنى فقط من السكر! وفي الواقع، جميع الأحماض النووية والجزيئات البيولوجية التي تدخل في تكويننا هي من نوع واحد فقط – نسمي هذا الأمر بالـ"هوموكيرالية"، ولم يستطع العلماء حتى الآن فهم السبب الحقيقي وراء تفضيل الطبيعة لهذه النسخة دون غيرها، مما يجعل الأمر لغزاً محيراً في أصل الحياة على كوكبنا.
والقضية لا تقتصر فقط على السكريات. قبل أكثر من 170 عامًا، اكتشف العالِم الفرنسي لويس باستور صدفةً أثناء تجاربه على النبيذ الفاسد، أن بعض الجزيئات يمكن أن تظهر بنسختين كيراليتين، وأن كل نسخة منهما يمكن أن تؤدي وظائف كيميائية مختلفة تمامًا، رغم احتوائهما على نفس الذرات ونفس التركيب الكيميائي الأساسي. ولو افترضنا وجود كائنات حيّة من عالم المرآة، فإن أنظمتنا الدفاعية ومضاداتنا الحيوية ستكون عاجزة عن التصدي لهذه الأشكال من الحياة، ما دفع علماء مؤخراً للتحذير بجدية من محاولات تصنيع كائنات حيوية صناعية "كيرالية" معكوسة قد تهدد التوازن الطبيعي للأرض.
ولا تتوقف الأمور عند الكيمياء والأحياء؛ بل تصل أيضًا إلى فيزياء الجسيمات الأساسية. فإذا تعمقنا قليلاً في عالم الجزيئات الأولية مثل الإلكترونات والكواركات والنيوترينات، فسنجد فرقاً مميزاً هناك أيضًا. الجسيمات التي تتحرك بسرعة الضوء وتمتلك ما نطلق عليه "الزخم الزاوي"، تدور بأحد الاتجاهين فقط، يميناً أو يساراً، ويحدّد اتجاه الدوران خصائص وتفاعلات هذه الجسيمات. والمثير في الأمر هو أن القوى الفيزيائية لهذا العالم لا تتعامل جميعها مع طرفي هذه الثنائية بشكل عادل، فالقوة النووية الضعيفة - المسؤولة عن الاضمحلال الإشعاعي - تؤثر فقط على الجسيمات "اليسرى"، ولا تتفاعل مع نظيرتها "اليمنى" أبداً!
أما الجسيمات التي تحمل كتلًا مثل الإلكترونات فتكون الأمور أكثر تعقيدًا قليلاً؛ لأن سرعتها محدودة ويمكن لمراقب يتحرك بسرعة أعلى أن يراها وكأنها تدور في الاتجاه المعاكس. لذلك يلجأ الفيزيائيون إلى وصف خصائص هذه الجسيمات عبر حسابات رياضية دقيقة، يُطلق عليها "الدوال الموجية الكمومية"، لتحديد اتجاه خصائصها الكيرالية.
ولعل أغرب جانب في هذه الثنائية الغريبة هو النيوترينو، هذا الجسيم شبه الشبح والذي لم نرصد من أشكاله سوى "اليسرى" فقط. حتى الآن، يُجهد العلماء أنفسهم محاولين معرفة: أين اختفت الصورة اليمنى للنيوترينو؟ هل هي موجودة ولا نرصدها، أم أنها غير موجودة من الأساس؟ الإجابة قد تلهم حلولاً لبعض أكبر الألغاز الكونية، مثل سبب تفوق المادة على مضاد المادة في الكون، أو بعبارة أخرى: لماذا هناك أي شيء في الكون أصلاً بدلًا من العدم؟
في النهاية، تصعب علينا مقاومة التفكير في ماهية واقعنا بالمقارنة مع عالم المرآة الخيالي. فإذا كانت "أليس" قد تعلمت الكثير من وراء المرآة، فنحن أيضًا قد نتعلم أكثر عن عالمنا باستكشاف هذه الأنماط الغريبة من عدم التماثل والعجائب التي تختبئ في أساس الواقع. ربما علينا فقط أن نكون أكثر حذرًا من تجربة تذوق حليب المرآة، ونكتفي باكتشاف أسراره من بعدٍ آمن.