فيروسـات قديمة تسكن حمضك الوراثي… وتتحكم في مصيرك!

3 د
كشفت الدراسة الحالية عن دور كبير للفيروسات القديمة المتواجدة في جيناتنا بتنظيم النشاط الجيني.
العناصر الوراثية المنقولة تسللت لجزء كبير من جينوماتنا وتتحكم في الجينات المجاورة.
استخدمت الأبحاث الحديثة تقنيات جديدة لفهم كيفية تأثير هذه العناصر على نشاط الجينات.
تنوع تسلسل MER11 بين البشر والرئيسيات الأخرى ساهم في التفرد البشري.
هذه الاكتشافات تدعو لإعادة النظر في اعتبار أجزاء من الحمض النووي "غير مفيدة".
لطالما اعتـقد العلماء أن أجزاءً كبيرة من شيفرتنا الوراثية لا قيمة لها، فقط بقايا ضائعة من فيروسات هاجمت أجدادنا قبل ملايين السنين. ولكن دراسة علمية جديدة جاءت لتقلب هذا الاعتقاد رأسًا على عقب، إذ اكتشف الباحثون أن لهذه الشفرات “المنسية” دوراً مركزياً في تنظيم نشاط الجينات– وخصوصًا أثناء المراحل الأولى لنشوء الجنين، وهي تصنع ما يشبه مفاتيح التشغيل والإيقاف لبقية الحمض النووي لدينا. بمعنى آخر: موروثنا من الفيروسات القديمة لا يزال يبصم على حياتنا حتى هذه اللحظة.
جاء هذا الكشف المثير بعد أن أعاد العلماء النظر في “العناصر القافزة” أو ما يعرف علميًا باسم العناصر الوراثية المنقولة (transposable elements). هذه المقاطع من الحمض النووي أصلها البعيد فيروسي، إذ تسللت إلى جينومات أسلافنا عبر آلاف الأجيال وتكاثرت بطريقة النسخ واللصق – حتى باتت اليوم تشكّل نحو نصف المادة الوراثية لدى الإنسان. في السابق، جرى وصفها بمصطلحات مثل “DNA غير مجدٍ” أو “حشوة جينية”، إلا أن الأبحاث الحديثة برهنت أن لبعض تلك المقاطع (وعلى رأسها عائلة مير11، أو MER11 الشابة نسبياً) قدرة على التحكّم في الجينات المجاورة، فهي تفتح أو تغلق هذه الجينات بحسب نوع الخلية وتوقيت النشاط.
ولكي يحلوا لغز هذه العناصر التي تنتشر بنسخ تكاد تتطابق ولا تحمل علامات واضحة في قواعد البيانات الوراثية، طوّر باحثون منهجية جديدة تقسم فصائل مير11 إلى أربع سلالات زمنية وفق مدى قرابتها وتوزعها لدى الرئيسيات: MER11_G1 حتى MER11_G4 الأحدث. هذا التصنيف الدقيق سمح لهم بتتبع أثر تلك التسلسلات الفيروسية بدقة غير مسبوقة. وبالعودة إلى صميم الدراسة، استعان العلماء بتقنية اختبارية تسمى lentiMPRA، وهي طريقة مبتكرة تسمح بقياس تأثير آلاف المقاطع الوراثية فوراً عند زرعها داخل خلايا جذعية بشرية وخلايا عصبية في طور التكوين. النتائج كانت مدهشة: النسخة الأحدث مير11_G4 أظهرت نشاطًا هائلاً في تشغيل الجينات، وبرزت فيها “أنماط تنظيمية” فريدة– وهي رموز جينية أشبه بجسور تستقطب إليها بروتينات التحكّم الجيني (عوامل النسخ)، والتي تتحكم متى وكيف تعمل الجينات استجابة للإشارات البيئية أو النمائية.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا التنوع في تسلسل مير11 بين البشر والشمبانزي وبعض أنواع القرود أدى إلى وجود اختلافات دقيقة لكنها مؤثرة في آلية تفعيل الجينات أثناء تكوين الأنسجة المبكرة. فبينما تراكمت لدى الإنسان والشمبانزي تغييرات طفيفة على المدى التطوري، فقد اكتسبت تلك المقاطع قدرة أعظم على تعزيز النشاط الجيني في الخلايا الجذعية البشرية، ما قد يدعم تفسيراً جديداً حول هوية الإنسان وتفرده مقارنة ببقية الكائنات.
وهكذا، يتضح لنا كيف تتحول تلك الأطلال الفيروسية، التي اعتُبرت يوماً جزءاً غير ضار في جينوماتنا، إلى قوى حقيقية تصوغ مصير الخلايا وتساهم في التطور والتمايز بين الأنواع. يشرح الباحث الرئيس د. شينغ تشن أن هذه السلالات الأحدث من العناصر القافزة تخدم كأدوات تنظيمية جديدة وتساهم في نشوء سمات مميزة للبشر. تتكامل هذه النتائج مع رؤية الفريق العلمي: أن فهم كيفية تطور وتصنيف هذه المقاطع الفيروسية يكشف لنا خطوات أساسية في مسيرة تطور الجينوم البشري.
وفي نهاية المطاف، تلفت الدكتورة إينوي، إحدى القيادات العلمية في المشروع، إلى أن فك شيفرة الجينوم البشري لم يكن سوى بداية الرحلة؛ فما زالت وظيفة فقرات كاملة من حمضنا الوراثي قيد الاكتشاف. وربما من الأفضل اليوم أن نعيد النظر في تسميات مثل “DNA غير مفيد”، ونستبدلها بتوصيفات أدق تؤكد على دورها الحيوي في المسيرة التطورية وتنظيم الحياة. فربما لو أضفنا وسط هذه الفقرات جملة ربط تبرز كيف أن تداخل “أدوات السيطرة الفيروسية” يوسع من فهمنا لتمايز الإنسانية، لأصبح المقال أكثر ترابطًا وعمقًا. يمتلئ حمضنا النووي بمفاجآت التاريخ القديم، ويبدو أن بعضها ما زال يقود الدفّة حتى يومنا هذا.